فصل: (فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَمُسَوِّغِهِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.كِتَابُ الشَّهَادَاتِ:

(قَالَ: الشَّهَادَةُ فَرْضٌ تَلْزَمُ الشُّهُودَ وَلَا يَسَعُهُمْ كِتْمَانُهَا إذَا طَالَبَهُمْ الْمُدَّعِي) لِقولهِ تعالى: {وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ طَلَبُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حَقُّهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الشَّهَادَاتِ):
يَتَبَادَرُ أَنَّ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْقَضَاءِ أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهَا، إذْ كَانَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِهَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَضَاءُ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الشَّهَادَةِ قَدَّمَهُ تَقْدِمَةً لِلْمَقْصُودِ عَلَى الْوَسِيلَةِ.
وَالشَّهَادَةُ لُغَةً، إخْبَارٌ قَاطِعٌ، وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الشَّرْعِ إخْبَارُ صِدْقٍ لِإِثْبَاتِ حَقٍّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْرُجُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَلَيْسَتْ شَهَادَةً.
وَقول الْقَائِلِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَشْهَدُ بِرُؤْيَةِ كَذَا لِبَعْضِ الْعُرْفِيَّاتِ.
وَسَبَبُ وُجُوبِهَا طَلَبُ ذِي الْحَقِّ أَوْ خَوْفُ فَوْتِ حَقِّهِ، فَإِنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ لَا يَعْلَمُ بِهَا صَاحِبُ الْحَقِّ وَخَافَ فَوْتَ الْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ بِلَا طَلَبٍ.
وَشَرْطُهَا الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْوِلَايَةُ، فَخَرَجَ الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْإِسْلَامُ لِأَنَّ الدِّينَ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فِي الْجُمْلَةِ.
وَرُكْنُهَا اللَّفْظُ الْخَاصُّ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقٌ لِلْإِخْبَارِ.
وَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْحُكْمِ عَلَى الْقَاضِي وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَهَا لَكِنَّهُ تُرِكَ بِقولهِ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} وَنَظَائِرُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ، وَسَبَبِيَّةُ الطَّلَبِ ثَبَتَتْ بِقولهِ تعالى: {وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} وَسَبَبِيَّةُ خَوْفِ الْفَوْتِ بِالْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ سَبَبِيَّةَ الطَّلَبِ إنَّمَا ثَبَتَتْ كَيْ لَا يَفُوتَ الْحَقُّ.
قولهُ: (الشَّهَادَةُ فَرْضٌ) يَعْنِي أَدَاءَهَا بَعْدَ التَّحَمُّلِ، فَإِنَّهَا تُقَالُ لِلتَّحَمُّلِ كَمَا يُقَالُ لِلْأَدَاءِ فِي الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ مُلَاحَظَةِ الْمُتَكَلِّمِ مُسَوِّغًا لِلْإِطْلَاقِ فِي قَصْدِ التَّحَمُّلِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا عِنْدَ عُرْفِ أَهْلِ التَّكَلُّمِ وَافْتِرَاضُ الْأَدَاءِ إلَّا فِي الْحُدُودِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وقوله تعالى: {وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ النَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ إذَا دُعِيَ إلَيْهِ، وَيَكُونُ اسْمُ الشُّهَدَاءِ مَجَازًا فِيمَنْ سَيَتَّصِفُ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ النَّهْيُ لِكَرَاهَةِ الْإِبَاءِ عَنْ التَّحَمُّلِ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَمَرْجِعُهَا خِلَافُ الْأَوْلَى لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لِمَا فِيهِ مِنْ إعَانَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى حِفْظِ حَقِّهِ أَوْلَى.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ نَهْيُ مُسَمَّى الشُّهَدَاءِ عَنْ الْإِبَاءِ، وَحَقِيقَةُ الشُّهَدَاءِ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ فَيَكُونُ نَهْيُ مَنْ اتَّصَفَ بِالشَّهَادَةِ حَقِيقَةً عَنْ الْإِبَاءِ إذَا ادَّعَى، وَلَا اتِّصَافَ قَبْلَ الدُّعَاءِ إلَّا بِالتَّحَمُّلِ فَيَلْزَمُ كَوْنُ النَّهْيِ عَنْ إبَاءِ الْأَدَاءِ وَهُوَ الرَّاجِحُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ، وَالْأَدَاءُ الْمَفْرُوضُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَقَدْ فَرَضَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْمُتَحَمِّلِ أَنْ يَذْهَبَ إذَا دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ لِلْأَدَاءِ.
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} وَهُوَ تَحْرِيمُ الْكِتْمَانِ عَنْ الْقَاضِي فَيَكُونُ الْإِظْهَارُ لِلْقَاضِي وَهُوَ الْأَدَاءُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ الضِّدُّ الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ الِانْتِهَاءُ عَنْ الْمُحَرَّمِ الذِّشِي هُوَ الْكِتْمَانُ إلَّا بِهِ، ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ التَّحْرِيمَ الْمُفَادَ بِالنَّهْيِ بِقولهِ تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وَهُوَ تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ، لِأَنَّ قوله تَعَالَى فَإِنَّهُ آثِمٌ تَأْكِيدٌ، وَإِضَافَةُ الْإِثْمِ إلَى الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ وَرَئِيسُهَا تَأْكِيدٌ فِي تَأْكِيدٍ.
وَلِأَنَّهُ هُوَ مَحَلُّ الْكِتْمَانِ فَهُوَ مَحَلُّ الْمَعْصِيَةِ بِتَمَامِهَا هُنَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَعَاصِي الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْأَعْضَاءِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّهَا وَإِنْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِمَعْصِيَةِ الْقَلْبِ وَهُوَ الْهَمُّ الْمُتَّصِلُ بِالْفِعْلِ فَلَيْسَ هُوَ مَحَلًّا لِتَمَامِهَا.
قَالُوا: يَلْزَمُ إذَا كَانَ مَجْلِسُ الْقَاضِي قَرِيبًا، فَإِنْ كَانَ بَعِيدًا.
فَعَنْ نَصْرٍ: إنْ كَانَ بِحَالٍ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمِهِ يَجِبُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَأَرْكَبَهُ الطَّالِبُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ فِيمَنْ أَخْرَجَ الشُّهُودَ إلَى ضَيْعَةٍ فَاسْتَأْجَرَ لَهُمْ حَمِيرًا فَرَكِبُوهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَفِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهَا الْعَادَةُ وَهِيَ إكْرَامُ الشُّهُودِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ وَفَصَّلَ فِي النَّوَازِلِ بَيْنَ كَوْنِ الشَّاهِدِ شَيْخًا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ وَلَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ دَابَّةً فَتُقْبَلُ وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ، وَلَوْ وَضَعَ لِلشُّهُودِ طَعَامًا فَأَكَلُوا إنْ كَانَ مُهَيَّأً قَبْلَ ذَلِكَ تُقْبَلُ، وَإِنْ صَنَعَهُ لِأَجْلِهِمْ لَا تُقْبَلُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ لَا تُقْبَلُ فِيهِمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ: تُقْبَلُ فِيهِمَا، وَهُوَ الْأَوْجَهُ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِإِطْعَامِ مَنْ حَلَّ مَحَلَّ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ شَاهِدًا أَوْ لَا، وَيُؤْنِسُهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِهْدَاءَ إذَا كَانَ بِلَا شَرْطٍ لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ يَجُوزُ كَذَا قِيلَ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْأَدَاءَ فَرْضٌ، بِخِلَافِ الذَّهَابِ إلَى الْأَمِيرِ.
وَعِنْدَ الْفَقِيهِ أَبِي بَكْرٍ فِيمَنْ لَا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي إنْ عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُهُ نَرْجُو أَنْ يَسَعَهُ أَنْ لَا يَشْهَدَ.
وَفِي الْعُيُونِ: إنْ كَانَ فِي الصَّكِّ جَمَاعَةٌ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَسِعَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ لَكِنَّ قَبُولَهَا مَعَ شَهَادَتِهِ أَسْرَعُ وَجَبَ.
وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: إذَا دُعِيَ فَأَخَّرَ بِلَا عُذْرٍ ظَاهِرٍ ثُمَّ أَدَّى لَا تُقْبَلُ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ يُمْكِنُ أَنَّ تَأْخِيرَهُ بِعُذْرٍ وَيُمْكِنُ أَنَّهُ لِاسْتِجْلَابِ الْأُجْرَةِ انْتَهَى.
وَالْوَجْهُ أَنْ تُقْبَلَ وَيُحْمَلَ عَلَى الْعُذْرِ مِنْ نِسْيَانٍ ثُمَّ تَذَكُّرٍ أَوْ غَيْرِهِ.

متن الهداية:
(وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا الشَّاهِدُ بَيْنَ السَّتْرِ وَالْإِظْهَارِ) لِأَنَّهُ بَيْنَ حِسْبَتَيْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ وَالتَّوَقِّي عَنْ الْهَتْكِ (وَالسَّتْرُ أَفْضَلُ) لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَه: «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَفِيمَا نُقِلَ مِنْ تَلْقِينِ الدَّرْءِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ السَّتْرِ (إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ فِي السَّرِقَةِ فَيَقول: أَخَذَ) إحْيَاءً لِحَقِّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ (وَلَا يَقول سَرَقَ) مُحَافَظَةً عَلَى السَّتْرِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ لَوَجَبَ الْقَطْعُ وَالضَّمَانُ لَا يُجَامِعُ الْقَطْعَ فَلَا يَحْصُلُ إحْيَاءُ حَقِّهِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالشَّهَادَةُ فِي الْحُدُودِ) أَيْ الْأَدَاءُ فِي الْحُدُودِ يُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّرْكِ لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْقُرْآنِ وَإِنْ كَانَ عَامًّا لَكِنْ ثَبَتَ تَخْصِيصُهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْحُدُودِ لِمَا فِيهِ مِنْ السَّتْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي شَهِدَ عِنْدَه: «لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» كَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا قَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَزَّالٍ.
ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ: بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ يُقَالُ لَهُ هَزَّال: «لَوْ سَتَرْته بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَالْمُرَادُ بِمَرْجِعِ الضَّمِيرِ فِي قولهِ سَتَرْته مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ عَنْ أَبِيه: «أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ وَقَالَ لِهَزَّالٍ: لَوْ سَتَرْتَهُ بِرِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك» وَإِنَّ هَزَّالًا هُوَ الَّذِي أَشَارَ عَلَى مَاعِزٍ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُقِرَّ عِنْدَهُ وَلَمْ يَكُنْ شَاهِدًا، لِأَنَّ مَاعِزًا إنَّمَا حُدَّ بِالْإِقْرَارِ، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ هَزَّالًا أَمَرَ مَاعِزًا أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرَهُ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَزَادَ.
وَقَالَ شُعْبَةُ: قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْت هَذَا الْحَدِيثَ بِمَجْلِسٍ فِيهِ يَزِيدُ بْنُ نُعَيْمِ بْنِ هَزَّالٍ فَقَالَ يَزِيدُ: هَذَا هُوَ الْحَقُّ، هَذَا حَدِيثُ جَدِّي وَقَالَ: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
وَرَوَاهُ ابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَفِيه: «قَالَ فِي هَزَّالٍ بِئْسَمَا صَنَعْت، لَوْ سَتَرْته بِطَرْفِ رِدَائِك لَكَانَ خَيْرًا لَك، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَدْرِ أَنَّ فِي الْأَمْرِ سَعَةً» وَمِنْهُ قولهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَتَلْقِينُ الدَّرْءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ تَلْقِينُ مَا يَحْصُلُ بِهِ الدَّرْءُ دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى قَصْدِهِ إلَى السَّتْرِ وَالسَّتْرُ يَحْصُلُ بِالْكِتْمَانِ، فَكَانَ كِتْمَانُ الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ مَخْصُوصًا مِنْ عُمُومِ تَحْرِيمِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَسْنَدَ الطَّحَاوِيُّ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: «أُتِيَ بِسَارِقٍ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذَا سَرَقَ فَقَالَ لَهُ مَا إخَالُهُ سَرَقَ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُد «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ قَدْ اعْتَرَفَ اعْتِرَافًا وَلَمْ يُوجَدْ مَعَهُ مَتَاعٌ، فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا إخَالُكَ سَرَقْت، قَالَ فَأَعَادَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ» الْحَدِيثَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمَاعِزٍ: لَعَلَّك قَبَّلْت أَوْ غَمَزْت أَوْ نَظَرْت، قَالَ: لَا» الْحَدِيثُ قَدَّمْنَاهُ فِي الْحُدُودِ.
فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ صَحَّ لَك الْقول بِتَخْصِيصِ الْعَامِّ مِنْ الْكِتَابِ بِهَذِهِ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ، وَأَيْضًا شَرْطُ التَّخْصِيصِ عِنْدَكُمْ الْمُقَارَنَةُ وَمِنْ أَيْنَ ثَبَتَ لَك ذَلِكَ.
قُلْت: هَذِهِ الْأَخْبَارُ الْوَارِدَةُ فِي طَلَبِ السَّتْرِ بَلَغَتْ مَبْلَغًا لَا تَنْحَطُّ بِهِ عَنْ دَرَجَةِ الشُّهْرَةِ لِتَعَدُّدِ مُتُونِهَا مَعَ قَبُولِ الْأُمَّةِ لَهَا فَصَحَّ التَّخْصِيصُ بِهَا، أَوْ هِيَ مُسْتَنَدُ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَخْيِيرِ الشَّاهِدِ فِي الْحُدُودِ، فَثُبُوتُ الْإِجْمَاعِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمُخَصِّصِ.
وَأَمَّا الْمُقَارَنَةُ فَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ التَّخْصِيصِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَهَذَا التَّخْصِيصُ الَّذِي ادَّعَيْنَاهُ هُنَا لَيْسَ بِذَاكَ بَلْ هُوَ جَمْعٌ لِلْمُعَارَضَةِ عَلَى مَا كَتَبْنَاهُ فِي التَّعَارُضِ مِنْ كِتَابِ تَحْرِيرِ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا تَعَارَضَا بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ، فَإِذَا وَجَبَ لِلْجَمْعِ حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ تَضَمُّنُ الْحُكْمِ مِنَّا بِأَنَّهُ كَانَ مُقَارِنًا أَوْ أَنَّهَا لَيْسَتْ تَخْصِيصَاتٍ أُوَلَ كَمَا أَنَّا إذَا رَجَّحْنَا فِي التَّعَارُضِ الْمُحَرِّمَ عَلَى الْمُبِيحِ وَثَبَتَ صِحَّتُهُمَا تَضَمَّنَ حُكْمُنَا أَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى التَّحْرِيمِ فَنَسَخَ حُكْمًا لِوُجُوبِ تَرْجِيحِ الْمُحَرِّمِ وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ تَقَدُّمُهُ بِعِلْمِ تَارِيخِهِ، وَكَثِيرًا مَا يَعْتَرِضُ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّارِحِينَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَحْكُومِ فِيهَا بِالتَّخْصِيصِ مِنْ أَصْحَابِنَا بِأَنَّ الْمُقَارَنَةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا يَثْبُتُ التَّخْصِيصُ، وَمُرَادُهُمْ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مَا ذَكَرْنَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا نَظَرْنَا إلَى مُجَرَّدِ إطْلَاقِ قوله تعالى: {وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا} فَأَمَّا إذَا قَيَّدْنَاهُ بِمَا إذَا دُعُوا لِلشَّهَادَةِ فِي الدَّيْنِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ الْآيَةِ: أَيْ قوله تعالى: {إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
ثُمَّ قَال: {وَلَا يَأْبَى الشُّهَدَاءُ} يَعْنِي بِذَلِكَ الدَّيْنَ فَظَاهِرٌ.
قولهُ: (إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ) اسْتِدْرَاكٌ مِنْ قولهِ مُخَيَّرٌ فِي الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَشْهَدَ بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ يَتَبَادَرُ أَنَّهُ لَا يَشْهَدُ فِيهَا مُطْلَقًا لِاسْتِلْزَامِهِ الْحَدَّ فَقَالَ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ إحْيَاءً لِحَقِّ مَالِكِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَيَقول أَخَذَ الْمَالَ وَلَا يَقول سَرَقَ، فَإِنَّ الْأَخْذَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ غَصْبًا أَوْ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّهُ مِلْكُهُ مُودَعًا عِنْدَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا تَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةُ بِالْأَخْذِ مُطْلَقًا ثُبُوتَ الْحَدِّ بِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، لِأَنَّهُ إذَا قَالَ سَرَقَ فَثَبَتَتْ السَّرِقَةُ وَجَبَ الْقَطْعُ وَبِهِ يَنْتَفِي ضَمَانُ الْمَالِ إنْ كَانَ أَتْلَفَهُ.

متن الهداية:
(وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبَ: مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ) لِقولهِ تعالى: {وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَلِقولهِ تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} (وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ لِقِيَامِهَا مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ فَلَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَالشَّهَادَةُ عَلَى مَرَاتِبِهَا) أَرْبَعَةٌ (مِنْهَا الشَّهَادَةُ فِي الزِّنَا) وَالشَّهَادَةُ فِي بَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُعَامَلَاتِ، وَالشَّهَادَةُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ النِّسَاءِ.
أَمَّا عَلَى الزِّنَا فَيُعْتَبَرُ فِيهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ لِقولهِ تعالى: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا حَفْصٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ بَعْدَهُ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَالدِّمَاءِ انْتَهَى.
وَتَخْصِيصُ الْخَلِيفَتَيْنِ. يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ كَانَ مُعْظَمُ تَقْرِيرِ الشَّرْعِ وَطُرُقِ الْأَحْكَامِ فِي زَمَانِهِمَا وَبَعْدَهُمَا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا الِاتِّبَاعُ، وَلِأَنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ بِقولهِ تعالى: {أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} فَقَبُولُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ ثَلَاثَةٍ مُخَالِفٌ لِمَا نُصَّ عَلَيْهِ مِنْ الْعَدَدِ وَالْمَعْدُودِ.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ عُمُومِ {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وَبَيَّنَ هَذِهِ فَتُقَدَّمَ هَذِهِ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ وَتِلْكَ مُبِيحَةٌ.
وَأَيْضًا هَذِهِ تُفِيدُ زِيَادَةَ قَيْدٍ وَزِيَادَةُ الْقَيْدِ مِنْ طُرُقِ الدَّرْءِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا كَثُرَتْ قُيُودُ الشَّيْءِ قَلَّ وُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ تَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ فِيهَا شُبْهَةَ الْبَدَلِيَّةِ، وَلِذَا لَا تُقْبَلُ فِيهَا الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} الْآيَةُ ظَاهِرَةٌ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ذَلِكَ فَاعْتُبِرَ حَقِيقَةُ الْبَدَلِيَّةِ لَكِنْ لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْإِجْمَاعِ نَزَلَتْ إلَى شُبْهَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَالشُّبْهَةُ كَالْحَقِيقَةِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ.
وَسَائِرُ مَا سِوَى حَدِّ الزِّنَا مِنْ الْحُدُودِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَلَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا.

متن الهداية:
(وَمِنْهَا الشَّهَادَةُ بِبَقِيَّةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ) لِقولهِ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} (وَلَا تُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ النِّسَاءِ) لِمَا ذَكَرْنَا.
(قَالَ: وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ يُقْبَلُ فِيهَا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ مِثْلُ النِّكَاحِ) وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْحَوَالَةِ وَالْوَقْفِ وَالصُّلْحِ (وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ) وَالْهِبَةِ وَالْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ وَالْوَلَدِ وَالْوِلَادِ وَالنَّسَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالِ الضَّبْطِ وَقُصُورِ الْوِلَايَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِي الْحُدُودِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ وَحْدَهُنَّ إلَّا أَنَّهَا قُبِلَتْ فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً، وَالنِّكَاحُ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَقَلُّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ بِمَا هُوَ أَدْنَى خَطَرًا وَأَكْثَرُ وُجُودًا.
وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ لِوُجُودِ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَالضَّبْطُ وَالْأَدَاءُ، إذْ بِالْأَوَّلِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلشَّاهِدِ، وَبِالثَّانِي يَبْقَى، وَبِالثَّالِثِ يَحْصُلُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي وَلِهَذَا يُقْبَلُ إخْبَارُهَا فِي الْأَخْبَارِ، وَنُقْصَانُ الضَّبْطِ بِزِيَادَةِ النِّسْيَانِ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَعَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ.
الشَّرْحُ:
وَكَذَا الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ: أَيْ وَكُلُّ مَا سِوَى ذَلِكَ يُقْبَلُ فِيهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَقُّ مَالًا أَوْ لَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْوَكَالَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْعِتْقِ وَالرَّجْعَةِ وَالنَّسَبِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَتَوَابِعِهَا كَالْإِذْنِ وَشَرْطِ الْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَقَتْلِ الْخَطَإِ وَكُلِّ جُرْحٍ لَا يُوجِبُ إلَّا الْمَالَ، وَكَذَا فَسْخُ الْعُقُودِ وَقَبْضُ نُجُومِ الْكِتَابَةِ إلَّا النَّجْمُ الْأَخِيرُ فَفِيهِ وَجْهَانِ لِتَرَتُّبِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا عَدَمُ الْقَبُولِ لِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَاخْتِلَالُ الضَّبْطِ، وَكَقول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مَالِكٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ كَقولنَا وَرِوَايَةٌ كَقولهِمَا، وَقُصُورُ الرِّوَايَةِ حَتَّى إنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْإِمَارَةِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ مِنْهُنَّ، لَكِنْ خَرَجَ عَنْ الْأَصْلِ شَرْعًا فِي الْأَمْوَالِ ضَرُورَةً لِكَثْرَةِ وُقُوعِ أَسْبَابِهَا فَيَلْحَقُ الْحَرَجُ بِطَلَبِ رَجُلَيْنِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ، وَكَذَا الْعَادَةُ أَنْ يُوَسَّعَ فِيمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ.
بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ أَعْظَمَ خَطَرًا أَقَلَّ وُقُوعًا فَلَا يَلْحَقُ الْحَرَجُ بِالِاشْتِرَاطِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى فِي الرَّجْعَةِ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالرَّجْعَةُ مِنْ تَوَابِعِ النِّكَاحِ فَأُلْحِقَتْ بَقِيَّةُ التَّوَابِعِ بِهِ كَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَنَا أَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْقَبُولُ) فَابْتَدَأَ بِتَضْمِينِ مَنْعِ مُقَدِّمَتِهِ الْقَائِلَةِ: الْأَصْلُ عَدَمُ الْقَبُولِ، ثُمَّ أَثْبَتَ هَذِهِ بِوُجُودِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ إلَخْ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْمُشَاهَدَةَ وَالضَّبْطَ أَهْلِيَّةُ الْأَدَاءِ لَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، بَلْ هِيَ كَمَا قَالَ فِي الْأَسْرَارِ: إنَّ أَهْلِيَّتَهَا بِالْوِلَايَةِ وَالْوِلَايَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَالْإِرْثِ وَالنِّسَاءُ فِي هَذَا كَالرِّجَالِ.
بَقِيَ أَهْلِيَّةُ التَّحَمُّلِ وَهُوَ بِالْمُشَاهَدَةِ وَالضَّبْطِ وَالنِّسَاءُ فِي ذَلِكَ كَالرِّجَالِ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَتُهُنَّ لِأَحَادِيثِ الْأَحْكَامِ الْمُلْزِمَةِ لِلْأُمَّةِ.
فَعَنْ هَذَا قَدْ يُقَالُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: إنْ جَعَلَ الشَّارِعُ الثِّنْتَيْنِ فِي مَقَامِ رَجُلٍ لَيْسَ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بَلْ لِإِظْهَارِ دَرَجَتِهِنَّ عَنْ الرِّجَالِ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَقَدْ نَرَى كَثِيرًا مِنْ النِّسَاءِ يَضْبِطْنَ أَكْثَرَ مِنْ ضَبْطِ الرِّجَالِ لِاجْتِمَاعِ خَاطِرِهِنَّ أَكْثَرَ مِنْ الرِّجَالِ لِكَثْرَةِ الْوَارِدَاتِ عَلَى خَاطِرِ الرِّجَالِ وَشُغْلِ بَالِهِمْ بِالْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ وَقِلَّةِ الْأَمْرَيْنِ فِي جِنْسِ النِّسَاءِ.
سَلَّمْنَا أَنَّهُ لِنُقْصَانِ الضَّبْطِ وَزِيَادَةِ النِّسْيَانِ فِي جِنْسِهِنَّ وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَفْرَادِهِنَّ أَضْبَطَ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الرِّجَالِ لِقولهِ تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} لَكِنْ ذَلِكَ انْجَبَرَ بِضَمِّ الْأُخْرَى إلَيْهَا فَلَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ إلَّا الشُّبْهَةُ فَلَمْ تُقْبَلْ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ، وَهَذِهِ الْحُقُوقُ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، وَأَمَّا عَدَمُ قَبُولِ الْأَرْبَعِ فَعَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ كَأَنَّهُ كَيْ لَا يَكْثُرَ خُرُوجُهُنَّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَالْجَمْعُ الْمُحَلَّى بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَقَلَّ.
وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَتْ الذُّكُورَةُ لِيَخِفَّ النَّظَرُ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ فَكَذَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ إلَّا أَنَّ الْمُثَنَّى وَالثَّلَاثَ أَحْوَطُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ (ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي الطَّلَاقِ) وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ فَإِنْ شَهِدْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ فِي الْعِنِّينِ سَنَةً وَيُفَرَّقُ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعَةِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا ثَيِّبٌ يَحْلِفُ الْبَائِعُ لِيَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى قولهِنَّ وَالْعَيْبُ يَثْبُتُ بِقولهِنَّ فَيَحْلِفُ الْبَائِعُ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَطْلُعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إلَّا فِي حَقِّ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ.
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الْإِرْثِ أَيْضًا لِأَنَّهُ صَوْتٌ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَلَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ عَادَةً فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَتُقْبَلُ فِي الْوِلَادَةِ وَالْبَكَارَةِ وَالْعُيُوبِ بِالنِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ) مُسْلِمَةٍ حُرَّةٍ عِدْلَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ.
وَشَرَطَ الشَّافِعِيُّ أَرْبَعًا. وَمَالِكٌ ثِنْتَيْنِ. لَهُ أَنَّ كُلَّ ثِنْتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ. وَلِمَالِكٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرَانِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ فَبَقِيَ الْعَدَدُ.
وَلَنَا مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي أَوَّلِ بَابِ شَهَادَاتِ النِّسَاءِ مِنْ الْأَصْلِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ» وَهَذَا مُرْسَلٌ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ.
وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْحَدِيثِ قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ اللَّامَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ اعْتِبَارُهَا فِي الْعَهْدِ إذْ لَا عَهْدَ فِي مَرْتَبَةٍ بِخُصُوصِهَا مِنْ مَرَاتِبِ الْجَمْعِ كَانَتْ لِلْجِنْسِ وَهُوَ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ فَتَصِحُّ بِوَاحِدَةٍ وَالْأَكْثَرُ أَحْسَنُ فَقُلْنَا كَذَلِكَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنْ تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُنَّ مِنْ وِلَادَاتِ النِّسَاءِ وَعُيُوبِهِنَّ، وَهَذَا مُرْسَلٌ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ مِثْلُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَيْضًا أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إلَّا عَلَى مَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إلَّا هُنَّ مِنْ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ.
وَلَهُ مَخَارِجُ أُخَرُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (ثُمَّ حُكْمُهَا فِي الْوِلَادَةِ شَرَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ) أَيْ فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: لَوْ شَهِدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلٌ فَقَالَ فَاجَأْتهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي إلَيْهَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ عَدْلًا، وَلَوْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ لَا تُقْبَلُ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: إنْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ تُقْبَلُ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا حُكْمُ الْبَكَارَةِ، فَإِنْ شَهِدَتْ أَنَّهَا بِكْرٌ يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً فَإِذَا مَضَتْ فَقَالَ وَصَلْت إلَيْهَا فَأَنْكَرَتْ تَرَى النِّسَاءُ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ تُخَيَّرُ فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ فُرِّقَ لِلْحَالِ، وَإِنَّمَا فُرِّقَ بِقولهِنَّ لِأَنَّهَا تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ وَهُوَ مُوَافَقَةُ الْأَصْلِ، إذْ الْبَكَارَةُ أَصْلٌ، وَلَوْ لَمْ تَتَأَيَّدْ شَهَادَتُهُنَّ بِمُؤَيِّدٍ اُعْتُبِرَتْ فِي تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لَا فِي إلْزَامِ الْخَصْمِ، وَكَذَا فِي رَدِّ الْمَبِيعِ إذَا اشْتَرَاهَا بِشَرْطِ الْبَكَارَةِ فَقَالَ الْمُشْتَرِي هِيَ ثَيِّبٌ يُرِيهَا النِّسَاءَ، فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ لَزِمَتْ الْمُشْتَرِيَ لِتَأَيُّدِ شَهَادَتِهِنَّ بِمُؤَيِّدٍ هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ قَوِيٌّ وَشَهَادَتُهُنَّ ضَعِيفَةٌ وَلَمْ تَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ لَكِنْ ثَبَتَ حَقُّ الْخُصُومَةِ فَتَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الْبَائِعِ لَقَدْ سَلَّمْتهَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا حَلَفَ بِاَللَّهِ لَقَدْ بِعْتهَا وَهِيَ بِكْرٌ، فَإِنْ نَكَلَ رُدَّتْ عَلَيْهِ، وَإِنْ حَلَفَ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُنَّ عَلَى اسْتِهْلَالِ الصَّبِيِّ فَتُقْبَلُ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ الْإِرْثِ فَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِهْلَالَ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَانَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهَا انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ فَلَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَهُمَا يَقولانِ صَوْتُهُ يَقَعُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهَا لَا يَحْضُرُ الرِّجَالُ فَصَارَ كَشَهَادَتِهِنَّ عَلَى نَفْسِ الْوِلَادَةِ، وَبِقولهِمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَهُوَ أَرْجَحُ قَالَ:

متن الهداية:
(وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الشَّاهِدُ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَقَالَ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ) أَمَّا الْعَدَالَةُ فَلِقولهِ تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَلِقولهِ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعِينَةُ لِلصِّدْقِ، لِأَنَّ مَنْ يَتَعَاطَى غَيْرَ الْكَذِبِ قَدْ يَتَعَاطَاهُ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَصِحُّ عِنْدَنَا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَصِحُّ، وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ.
وَأَمَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَلِأَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ تَوْحِيدٍ، فَإِنَّ قولهُ أَشْهَدُ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ كَقولهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَكَانَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الْكَذِبِ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَشَدَّ.
وَقولهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إشَارَةٌ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى يُشْتَرَطَ الْعَدَالَةُ، وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْوِلَادَةِ وَغَيْرِهَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِلْزَامِ حَتَّى اخْتَصَّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي الْمُسْلِمِ وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ حَتَّى يَطْعَنَ الْخَصْمُ) لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» وَمِثْلُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الِانْزِجَارُ عَمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ دِينُهُ، وَبِالظَّاهِرِ كِفَايَةٌ إذْ لَا وُصُولَ إلَى الْقَطْعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ الْعَدَالَةِ وَلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ) حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ أَعْلَمُ أَوْ أَتَيَقَّنُ لَا تُقْبَلُ.
وَثَالِثٌ وَهُوَ التَّفْسِيرُ حَتَّى لَوْ قَالَ أَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ مِثْلَ شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ، وَكَذَا مِثْلُ شَهَادَةِ صَاحِبِي عِنْدَ الْخَصَّافِ لِلِاحْتِمَالِ.
أَمَّا اشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فَلِقولهِ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ} وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِجِهَةِ الصِّدْقِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ إخْبَارٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ عَلَى السَّوَاءِ بِالنَّظَرِ إلَى نَفْسِ الْمَفْهُومِ، فَبِذَلِكَ لَا يَلْزَمُ كَوْنُهُ صِدْقًا حَتَّى يَعْمَلَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُنْكِرُ أَيْضًا قَدْ يَكُونُ عَدْلًا.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ اخْتِلَافُ الْمُدَّعِي فَيَتَسَاقَطَانِ وَتَسْلَمُ الشَّهَادَةُ عَنْ الْمُعَارِضِ أَوْ يَتَرَجَّحُ إخْبَارُ الْمُدَّعِي بِالشَّهَادَةِ (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ) كَمُبَاشِرِي السُّلْطَانِ وَالْمَكَسَةِ وَغَيْرِهِمْ (تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَأْجَرُ لِشَهَادَةِ الزُّورِ لِوَجَاهَتِهِ وَيَمْتَنِعُ عَنْ الْكَذِبِ لِمُرُوءَتِهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ) لِأَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إنْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَنْفُذُ عِنْدَنَا، وَيَكُونُ الْقَاضِي عَاصِيًا.
(وَأَمَّا) اشْتِرَاطُ (لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ النُّصُوصَ نَطَقَتْ بِاشْتِرَاطِهَا إذْ الْأَمْرُ فِيهَا) أَيْ فِي النُّصُوصِ (بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ) قَالَ تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، {وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ}، {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}، {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ». وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ النُّصُوصَ وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: غَايَاتُهَا وَرَدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ لَفْظَ الشَّهَادَةِ كَمَا قَالَ تعالى: {وَرَبَّك فَكَبِّرْ} وَلَمْ يُرِدْ مِنْ السُّنَّةِ فِي تَكْبِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَّا بِلَفْظِ التَّكْبِيرِ كَقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ» وَلَمْ يُشْتَرَطْ لِذَلِكَ لَفْظُ التَّكْبِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَمِنْ أَيْنَ لَزِمَ فِي الشَّهَادَةِ؟ قُلْنَا: لِفَرْقٍ مَعْنَوِيٍّ وَهُوَ أَنَّ لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ أَقْوَى فِي إفَادَةِ تَأْكِيدِ مُتَعَلِّقِهَا مِنْ غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ كَأَعْلَم وَأَتَيَقَّنُ لِمَا فِيهَا مِنْ اقْتِضَاءِ مَعْنَى الْمُشَاهَدَةِ وَالْمُعَايَنَةِ الَّتِي مَرْجِعُهَا الْحِسُّ وَلِأَنَّهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْحَلِفِ فَالِامْتِنَاعُ مَعَ ذِكْرِهَا عَنْ الْكَذِبِ أَظْهَرُ.
وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وَقولهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا رَأَيْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» فَلَزِمَ لِذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ التَّكْبِيرِ فَإِنَّهُ التَّعْظِيمُ، وَلَيْسَ لَفْظُ أَكْبَرَ أَبْلَغَ مِنْ أَجَلَّ وَأَعْظَمَ فَكَانَتْ الْأَلْفَاظُ سَوَاءً، فَلَمْ تَثْبُتْ خُصُوصِيَّةٌ تُوجِبُ تَعْيِينَ لَفْظِ أَكْبَرَ.
وَقولهُ (فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) أَيْ فِي الْمَرَاتِبِ الْأَرْبَعِ كُلِّهَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَقولهُ (هُوَ الصَّحِيحُ) احْتِرَازٌ عَمَّا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا خَبَرٌ كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ وَهُوَ قول سَائِرِ النَّاسِ وَمِنْهُمْ مَشَايِخُ الْمَذْهَبِ مِنْ الْبُخَارِيِّينَ وَالْبَلْخِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مَا ذَكَرْنَا مِنْ النُّصُوصِ مَعَ وَجْهِ إفَادَةِ اشْتِرَاطِهَا، بِخِلَافِ رَمَضَانَ فَإِنَّ اللَّازِمَ فِيهِ لَيْسَ الشَّهَادَةَ بَلْ الْإِخْبَارَ ذُكِرَ فِي الْخُلَاصَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ، لَوْ أَخْبَرَ عَدْلٌ الْقَاضِيَ بِمَجِيءِ رَمَضَانَ يُقْبَلُ قولهُ وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالصَّوْمِ يَعْنِي فِي يَوْمِ الْغَيْمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَشَرَائِطُ الْقَضَاءِ، أَمَّا فِي الْعِيدِ فَيُشْتَرَطُ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ انْتَهَى.
وَلِهَذَا احْتَاجُوا إلَى الْحِيلَةِ فِي إثْبَاتِ الرَّمَضَانِيَّةِ.
قَالُوا: يَدَّعِي عِنْدَ الْقَاضِي بِوَكَالَةٍ مُعَلَّقَةٍ بِدُخُولِ رَمَضَانَ بِقَبْضِ دَيْنٍ فَيُقِرُّ الْخَصْمُ بِالدَّيْنِ وَيُنْكِرُ دُخُولَ رَمَضَانَ فَيَشْهَدُ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَيُقْضَى بِالْمَالِ فَيَثْبُتُ مَجِيءُ رَمَضَانَ، لِأَنَّ إثْبَاتَ مَجِيءِ رَمَضَانَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحُكْمِ.
ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَهَادَاتِ الْخُلَاصَةِ.
وَاتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ وَالْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ وَالْإِسْلَامِ: يَعْنِي فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَإِلَّا فَالذِّمِّيُّ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مِثْلِهِ عِنْدَنَا.
قولهُ: (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ) يَعْنِي لَمَّا اتَّفَقَ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَدَالَةِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقْتَصِرُ الْحَاكِمُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ ظَاهِرُ حَالِهِ مِنْ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ الْتِزَامُ الِاجْتِنَابِ عَنْ مَحْظُورَاتِهِ فَيُقْبَلُ كُلُّ مُسْلِمٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَدْلٌ.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ» رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَدَّمْنَا بَعْضَهُ وَفِيه: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَجْلُودًا فِي قَذْفٍ، أَوْ مُجَرَّبًا فِي شَهَادَةِ زُورٍ، أَوْ ظَنِينًا فِي وَلَاءٍ أَوْ قَرَابَةٍ» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ حَسَنَةٌ، وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ غَيْرِ الطَّرِيقَيْنِ جَيِّدَةٍ، وَإِذَا كَانَ الثَّابِتُ ظَاهِرًا هِيَ الْعَدَالَةُ اكْتَفَى بِهَا، إذْ الْقَطْعُ لَا يَحْصُلُ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِقْصَاءِ.
نَعَمْ تَزْدَادُ قُوَّةُ الظَّنِّ وَلَا مُوجِبَ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ السَّلَفُ يَسْأَلُونَ قَبْلُ.

متن الهداية:
(إلَّا فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ) لِأَنَّهُ يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا فَيُشْتَرَطُ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا، وَلِأَنَّ الشُّبْهَةَ فِيهَا دَارِئَةٌ، وَإِنْ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ سَأَلَ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ تَقَابَلَ الظَّاهِرَانِ فَيَسْأَلُ طَلَبًا لِلتَّرْجِيحِ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ مَبْنَاهُ عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَيَتَعَرَّفُ عَنْ الْعَدَالَةِ، وَفِيهِ صَوْنُ قَضَائِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ.
وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ وَالْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ.
الشَّرْحُ:
وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا دَلِيلَ طَلَبِ الزِّيَادَةِ فَيَسْأَلُ عَلَى مَا عُرِفَ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ، إذْ رُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ التَّزْكِيَةِ فَيَنْدَرِئُ الْحَدُّ وَهُوَ مَطْلُوبٌ.
وَأَوْرَدَ أَنَّ الظَّاهِرَ إنَّمَا يَكْفِي لِلدَّفْعِ وَالشَّهَادَةُ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي الشَّهَادَةِ كَالْقَطْعِ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَى الْقَطْعِ وَلَا بِالتَّزْكِيَةِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الظَّاهِرَ يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّاهِرِ الَّذِي لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ هُوَ الِاسْتِصْحَابُ.
وَأَمَّا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ فَقَدْ تَقَابَلَ ظَاهِرَانِ فَيَسْأَلُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بُدَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُمْ طَعَنَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يَطْعَنْ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ مَالِكٌ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا بِالْعَدَالَةِ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ، وَمَنْ عُرِفَ جُرْحُهُ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْأَلُ إذَا شَكَّ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا بُدَّ مِنْ السُّؤَالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَنْبَنِي عَلَى الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْعُدُولِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَهُ الْعَدَالَةُ وَذَلِكَ بِذَلِكَ، وَلَا يَخْفَى قُوَّةُ دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى ذَلِكَ.
وَكَوْنُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَثْبُتَ الْعَدَالَةُ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَكِنْ يَقول: طَرِيقُ الثُّبُوتِ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَى ظَاهِرِ عَدَالَةِ الْمُسْلِمِ خُصُوصًا مَعَ مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ وَمَعَ ذَلِكَ الْفَتْوَى عَلَى قولهِمَا لِاخْتِلَافِ حَالِ الزَّمَانِ، وَلِذَلِكَ قَالُوا: هَذَا الْخِلَافُ خِلَافُ زَمَانٍ لَا حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي زَمَانِ أَبِي حَنِيفَةَ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ زَمَانِهِمَا.
وَمَا قِيلَ بِأَنَّهُ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ وَهُوَ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالصَّلَاحِ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَال: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وَهُمَا أَفْتَيَا فِي الْقَرْنِ الرَّابِعِ فَفِيهِ نَظَرٌ.
فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُوُفِّيَ فِي عَامِ خَمْسِينَ وَمِائَةٍ فَكَيْفَ أَفْتَى فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ.
وَقولهُ خَيْرُ الْقُرُونِ إلَخْ إثْبَاتُ الْخَيْرِيَّةِ بِالتَّدْرِيجِ وَالتَّفَاوُتِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّمَانِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَبَةَ الْفِسْقِ، وَالظَّاهِرُ الَّذِي يَثْبُتُ بِالْغَالِبِ أَقْوَى مِنْ الظَّاهِرِ الَّذِي يَثْبُتُ بِظَاهِرِ حَالِ الْإِسْلَامِ.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا قَطَعْنَا بِغَلَبَةِ الْفِسْقِ فَقَدْ قَطَعْنَا بِأَنَّ أَكْثَرَ مَنْ الْتَزَمَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَجْتَنِبْ مَحَارِمَهُ فَلَمْ يَبْقَ مُجَرَّدُ الْتِزَامِ الْإِسْلَامِ مَظِنَّةَ الْعَدَالَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ الثَّابِتُ بِالْغَالِبِ بِلَا مُعَارِضٍ.
فَرْعٌ:
لَوْ تَابَ الْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ مَا لَمْ تَمْضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ سَنَةٌ، وَلَوْ كَانَ عَدْلًا فَشَهِدَ بِالزُّورِ ثُمَّ تَابَ فَشَهِدَ تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ مُدَّةٍ.

متن الهداية:
قَالَ: (ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ إلَى الْمُعَدِّلِ فِيهَا النَّسَبُ وَالْحَلْيُ وَالْمُصَلَّى وَيَرُدُّهَا الْمُعَدِّلُ) كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ فَيُخْدَعَ أَوْ يُقْصَدَ (وَفِي الْعَلَانِيَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْمُعَدِّلِ وَالشَّاهِدِ) لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ غَيْرِهِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا تَحَرُّزًا عَنْ الْفِتْنَةِ.
وَيُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ.
ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقول الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يُعَدَّلُ، وَقِيلَ يَكْتَفِي بِقولهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهَذَا أَصَحُّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (ثُمَّ التَّزْكِيَةُ فِي السِّرِّ أَنْ يَبْعَثَ الْمَسْتُورَةَ) وَهِيَ الْوَرَقَةُ الَّتِي يَكْتُبُ فِيهَا الْقَاضِي أَسْمَاءَ الشُّهُودِ وَنَسَبَهُمْ وَحَالَهُمْ وَالْمُصَلَّى: أَيْ مَسْجِدَ مَحَلَّتِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَارَ إلَّا مُعَدِّلًا صَالِحًا زَاهِدًا كَيْ لَا يُخْدَعَ بِالْمَالِ مَأْمُونًا أَعْظَمَ مَنْ يَعْرِفُهُ فِي هَذِهِ الْأَوْصَافِ فَيَكْتُبُ إلَيْهِ ثُمَّ هُوَ يَسْأَلُ عَنْهُمْ أَهْلَ مَحَلَّتِهِمْ وَسُوقِهِمْ وَمَنْ يَعْرِفُهُمْ، وَيَكُونُ الْمُزَكِّي صَاحِبَ خِبْرَةٍ بِالنَّاسِ مُدَاخِلًا لَهُمْ لَا مُنْزَوِيًا عَنْهُمْ، فَإِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْمُخَالَطَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا أَهْلَ مَجْلِسِهِ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ، فَإِنْ وَجَدَهُمْ غَيْرَ ثِقَاتٍ يَعْتَبِرُ تَوَاتُرَ الْأَخْبَارِ.
وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالْمَحْدُودُ إذَا كَانُوا عُدُولًا، وَلَا يَجُوزُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا مَنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إلَّا لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فَقَطْ، لِأَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ مِنْ الْإِخْبَارِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ إذَا كَانَ عَدْلًا كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِلْأَخْبَارِ، فَإِذَا قَالَ الْمَسْئُولُ عَنْهُ هُوَ عَدْلٌ كَتَبَ الْمُزَكِّي هُوَ عَدْلٌ مَرَضِيٌّ مَقْبُولٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ، وَإِلَّا يَكْتُبُ هُوَ غَيْرُ عَدْلٍ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ: إنْ عَرَفَ فِسْقَهُ لَا يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ ذَلِكَ بَلْ يَسْكُتُ احْتِرَازًا عَنْ الْهَتْكِ، أَوْ يَقول اللَّهُ أَعْلَمُ، إلَّا إذَا خَافَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَيُصَرِّحُ حِينَئِذٍ بِذَلِكَ، وَمَنْ لَا يَعْرِفُهُ لَا بِعَدَالَةٍ وَلَا بِفِسْقٍ يَكْتُبُ مَسْتُورٌ ثُمَّ يَرُدُّ الْمَسْتُورَةَ مَعَ أَمِينِ الْقَاضِي إلَيْهِ كُلُّ ذَلِكَ فِي السِّرِّ كَيْ لَا يَظْهَرَ الْأَمْرُ فَيُخْدَعَ الْمُزَكِّي أَوْ يُقْصَدَ بِالْأَذَى.
وَأَمَّا الْعَلَانِيَةُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الشَّاهِدِ وَالْمُعَدِّلِ لِتَنْتَفِي شُبْهَةُ تَعْدِيلِ الْمُعَدِّلِ لِغَيْرِ هَذَا الشَّاهِدِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ الْقَاضِي إذْ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمٌ وَشُهْرَةٌ وَصِفَةٌ لِاثْنَيْنِ، وَقَدْ كَانَتْ الْعَلَانِيَةُ وَحْدَهَا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ كَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِمْ الصَّبْرُ لِلْحَقِّ، وَوَقَعَ الِاكْتِفَاءُ بِالسِّرِّ فِي زَمَانِنَا لِغَلَبَةِ النُّفُوسِ فِيهِ فَيُوجِبُ الْفِتْنَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ بَلَاءٌ وَفِتْنَةٌ، ثُمَّ قِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقول الْمُعَدِّلُ هُوَ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَهُوَ غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ.
وَقِيلَ يُكْتَفَى بِقولهِ هُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ ثَابِتَةٌ بِالدَّارِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا فَلَا تَلْزَمُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ، وَهَذَا أَصَحُّ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الظَّاهِرَ الْحُرِّيَّةُ نَظَرًا إلَى الدَّارِ فَيُكْتَفَى بِهِ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ بِالرِّقِّ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَفِي قول مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يُقْبَلْ قول الْخَصْمِ إنَّهُ عَدْلٌ) مَعْنَاهُ قول الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَزْكِيَتُهُ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةَ الْآخَرِ إلَى تَزْكِيَتِهِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَهُ شَرْطٌ.
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا، أَمَّا إذَا قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ.
الشَّرْحُ:
ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْرِيعًا عَلَى قول مُحَمَّدٍ مَنْ رَأَى أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ بِلَا طَعْنٍ لَا يُقْبَلُ قول الْخَصْمِ: يَعْنِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا قَالَ فِي شُهُودِ الْمُدَّعِي هُمْ عُدُولٌ فَلَا تَقَعُ بِهِ التَّزْكِيَةُ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي وَشُهُودِهِ أَنَّ الْخَصْمَ كَاذِبٌ فِي إنْكَارِهِ مُبْطَلٌ فِي إصْرَارِهِ فَلَا يَصْلُحُ مُعَدِّلًا لِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ فِي الْمُزَكِّي بِالْإِجْمَاعِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ، يَجُوزُ قولهُ ذَلِكَ تَعْدِيدٌ، لَكِنْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضُمُّ تَزْكِيَةُ آخَرَ إلَى تَزْكِيَتِهِ أَيْ تَزْكِيَةِ الْخَصْمِ لِأَنَّ الْعَدَدَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فِي الْمُزَكِّي شَرْطٌ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَقول هُمْ عُدُولٌ إلَّا أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا أَوْ نَسُوا.
أَمَّا لَوْ قَالَ صَدَقُوا أَوْ هُمْ عُدُولٌ صَدَقَةٌ أَوْ مَعْنًى هَذَا فَقَدْ اعْتَرَفَ بِالْحَقِّ وَانْقَطَعَ النِّزَاعُ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا قَالَ هُمْ عُدُولٌ فَالْقَاضِي يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَشَهِدُوا عَلَيْك بِحَقٍّ أَمْ بِبَاطِلٍ، فَإِنْ قَالَ بِحَقٍّ فَهُوَ إقْرَارٌ، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ.
فَرْعٌ:
إذَا شَهِدَ فَعُدِّلَ ثُمَّ شَهِدَ لَا يُسْتَعْدَلُ إلَّا إذَا طَالَ، فَوَقَّتَ مُحَمَّدٌ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ سَنَةً ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.

متن الهداية:
(وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمُزَكِّي، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ رَسُولُ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي وَالْمُتَرْجِمُ عَنْ الشَّاهِدِ لَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهُوَ بِالتَّزْكِيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ، وَتُشْتَرَطُ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ أَمْرٌ حُكْمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا كَانَ رَسُولُ الْقَاضِي الَّذِي يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ وَاحِدًا جَازَ وَالِاثْنَانِ أَفْضَلُ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَجُوزُ إلَّا اثْنَانِ، وَالْمُرَادُ) مِنْ رَسُولِ الْقَاضِي (الْمُزَكِّي) وَهُوَ الْمَسْئُولُ مِنْهُ عَنْ الشُّهُودِ فَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ قولهُ الَّذِي يُسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي التَّزْكِيَةِ الْوَاحِدُ، وَكَذَا الرِّسَالَةُ إلَيْهِ وَالرِّسَالَةُ مِنْهُ إلَى الْقَاضِي، وَكَذَا فِي التَّرْجَمَةِ عَنْ الشَّاهِدِ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَاضِي تَنْبَنِي عَلَى ظُهُورِ الْعَدَالَةِ وَهِيَ بِالتَّزْكِيَةِ فَتَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا كَمَا تَوَقَّفَتْ عَلَيْهَا فَيُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَمَا يُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ، وَلِذَا اُشْتُرِطَتْ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّي فِي الْحُدُودِ كَمَا اُشْتُرِطَتْ فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا.
وَلَهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَالتَّوَقُّفُ لَا يَسْتَلْزِمُ اشْتَرَاك كُلِّ مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ حُكْمٍ، بَلْ مَا كَانَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ الَّتِي بِهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ يَكُونُ مِثْلُهَا وَمَا لَا فَلَا يَلْزَمُ، وَالتَّزْكِيَةُ لَا يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ بَلْ إلَى الشَّهَادَةِ، فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ شَرْطًا لَا عِلَّةً، وَلِهَذَا وَقَعَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ بِالْإِجْمَاعِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي التَّزْكِيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ اشْتِرَاطُهَا فِي التَّزْكِيَةِ، عَلَى أَنَّ التَّعَدِّيَةَ تَكُونُ بِجَامِعٍ يُعْلَمُ اعْتِبَارُهُ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْرٌ تَحَكُّمِيٌّ فِي الشَّهَادَةِ يَعْنِي تَعَبُّدِيٌّ.
وَفِي الْمَبْسُوطِ: هُوَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ.
وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَبُّدِيًّا إذْ فِي الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ الْعَدْلُ لِأَنَّ خَبَرَهُ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ لَا عِلْمِ الْيَقِينِ، وَكَمَا لَا يَثْبُتُ الْعِلْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَعَدَّاهَا: أَيْ لَا يَتَعَدَّى الشَّهَادَةَ إلَى التَّزْكِيَةِ، وَهَذَا الْخِلَافُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ، فَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ، مَعَ أَنَّ الْوَجْهَ الْمَذْكُورَ يَجْرِي فِيهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ زِيَادَةُ شِبْهٍ لَهَا بِالشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ اشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَهَا اتِّفَاقًا، وَلَمَّا ظَهَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ اعْتِبَارُ التَّزْكِيَةِ بِالشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْعَدَدِ.
قَالَ الْمَشَايِخُ: فَيَجِبُ عِنْدَهُ اشْتِرَاطُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْمُزَكِّينَ فِي شُهُودِ الزِّنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

متن الهداية:
(وَلَا يُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فِي الْمُزَكِّي فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ) حَتَّى صَلُحَ الْعَبْدُ مُزَكِّيًا، فَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَهُوَ شَرْطٌ، وَكَذَا الْعَدَدُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى مَا قَالَهُ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
قَالُوا: يُشْتَرَطُ الْأَرْبَعَةُ فِي تَزْكِيَةِ شُهُودِ الزِّنَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.

.(فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَمُسَوِّغِهِ):

وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ وَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الشَّاهِدُ أَوْ رَآهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ (لِأَنَّهُ عَلِمَ مَا هُوَ الْمُوجِبُ بِنَفْسِهِ) وَهُوَ الرُّكْنُ فِي إطْلَاقِ الْأَدَاءِ.
قَالَ اللَّهُ تعالى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ» قَالَ: (وَيَقول أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ وَلَا يَقول أَشْهَدَنِي) لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ إلَّا إذَا كَانَ دَخَلَ الْبَيْتَ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ سِوَاهُ ثُمَّ جَلَسَ عَلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي الْبَيْتِ مَسْلَكٌ غَيْرُهُ فَسَمِعَ إقْرَارَ الدَّاخِلِ وَلَا يَرَاهُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ حَصَلَ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ يَتَعَلَّقُ بِكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ وَمُسَوِّغِهِ):
قولهُ وَمَا يَتَحَمَّلُهُ الشَّاهِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ، أَيْ يَكُونُ هُوَ تَمَامُ السَّبَبِ لِذَلِكَ الْحُكْمِ قولا كَانَ مِثْلَ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ وَالْإِقْرَارِ وَحُكْمِ الْحَاكِمِ.
أَوْ فِعْلًا كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ، فَإِذَا سَمِعَ الشَّاهِدُ الْقول كَأَنْ سَمِعَ قَاضِيًا يُشْهِدُ جَمَاعَةً مَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ رَأَى الْفِعْلَ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ فَيَقول أَشْهَدُ أَنَّهُ بَاعَ أَشْهَدُ أَنَّهُ قَضَى، فَلَوْ كَانَ الْبَيْعُ بَيْعَ مُعَاطَاةٍ فَفِي الذَّخِيرَةِ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ.
وَقِيلَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْبَيْعِ كَالْقوليِّ، وَلَا يَقول أَشْهَدَنِي لِأَنَّهُ كَذِبٌ، وَإِنَّمَا جَازَ الْأَدَاءُ بِلَا إشْهَادٍ لِأَنَّهُ عَلِمَ الْمُوجِبَ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَيْ عِلْمُ الْمُوجِبِ الرُّكْنُ الْمُسَوِّغُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لِمُسَوِّغِ الْأَدَاءِ سِوَاهُ.
وَقولهُ فِي إطْلَاقٍ يَعْنِي مُطْلَقَ الْأَدَاءِ.
وَاسْتَدَلَّ عَلَى تَسْوِيغِ الشَّرْعِ لِلْأَدَاءِ فِي ذَلِكَ بِقولهِ تعالى: {إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فَأَفَادَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ عَالِمًا بِحَقٍّ كَانَ مَمْدُوحًا فَلَزِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُطْلَقٌ شَرْعًا وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ مَمْدُوحًا.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «إذَا عَلِمْت مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» فَأَمَرَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعِلْمِ يَقِينًا، فَعَنْ هَذَا صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ بِمَا سَمِعْته مِنِّي ثُمَّ قَالَ بِحَضْرَتِهِ لِرَجُلٍ بَقِيَ لَك عَلَيَّ كَذَا وَغَيْرُ ذَلِكَ حَلَّ لَهُ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: اشْتَرَى عَبْدًا وَادَّعَى عَلَى الْبَائِعِ عَيْبًا بِهِ فَلَمْ يُثْبِتْهُ فَبَاعَهُ مِنْ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَيْهِ هَذَا الْعَيْبَ فَأَنْكَرَ، فَاَلَّذِينَ سَمِعُوا مِنْهُ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى الْعَيْبِ فِي الْحَالِ.
وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الشَّهَادَةِ فَقَالَ: هَلْ تَرَى الشَّمْسَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ: عَلَى مِثْلِهَا فَاشْهَدْ أَوْ دَعْ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ.
وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ مَشْمُولٍ ضَعَّفَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ انْتَهَى.
وَالْمَعْلُومُ أَنَّ النَّسَائِيّ ضَعَّفَهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ عَدِيٍّ، وَفِي الْعِبَارَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَلَوْ سَمِعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَثِيفٍ لَا يَشِفُّ مِنْ وَرَائِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَلَوْ شَهِدَ وَفَسَّرَهُ لِلْقَاضِي بِأَنْ قَالَ سَمِعْته بَاعَ وَلَمْ أَرَ شَخْصَهُ حِينَ تَكَلَّمَ لَا يَقْبَلُهُ لِأَنَّ النَّغْمَةَ تُشْبِهُ النَّغْمَةَ إلَّا إذَا أَحَاطَ بِعِلْمِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَوِّغَ هُوَ الْعِلْمُ غَيْرَ أَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَلِّمًا بِالْعَقْدِ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهِ فَإِذَا فَرَضَ تَحَقُّقَ طَرِيقٍ آخَرَ جَازَ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ دَخَلَ الْبَيْتَ فَرَآهُ فِيهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ غَيْرَهُ وَلَا مَنْفَذَ غَيْرُ الْبَابِ وَهُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَيْهِ وَسَمِعَ الْإِقْرَارَ أَوْ الْبَيْعَ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَجُوزُ لَهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِمَا سَمِعَ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِهِ الْعِلْمُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
وَنَحْوُهُ مَا فِي الْأَقْضِيَةِ: ادَّعَى عَلَى وَرَثَةٍ مَالًا فَقَالَا نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا الْمُتَوَفَّى قَبَضَ مِنْ الْمُدَّعِي صُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ وَلَمْ يَعْلَمَا كَمْ وَزْنُهَا إنْ فَهِمَا قَدْرَهَا وَأَنَّهَا دَرَاهِمُ وَأَنَّ كُلَّهَا جِيَادٌ بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ يَقِينُهُمَا بِذَلِكَ فَإِذَا شَهِدَا بِهِ جَازَ.
وَفِي الْفَتَاوَى: إذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى إقْرَارِهَا إلَّا إذَا رَأَى شَخْصَهَا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ.
أَجْمَلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَوَضَعَهَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا هَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ لَا يَعْرِفُهَا سَأَلَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَبَا سُلَيْمَانَ عَنْهَا قَالَ: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْهَدَ جَمَاعَةٌ أَنَّهَا فُلَانَةُ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِيك فَيَجُوزُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ.
وَهَلْ يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا؟ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْإِمَامُ خُوَاهَرْ زَادَهْ.
وَفِي النَّوَازِلِ قَالَ: يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ شَخْصِهَا.
وَفِي الْجَامِعِ الْأَصْغَرِ: يُشْتَرَطُ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةٍ تُفِيدُ التَّمْيِيزَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَيْهَا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّعْرِيفَ يُفِيدُ التَّمْيِيزَ لَزِمَ أَنْ لَا حَاجَةَ إلَى رُؤْيَةِ وَجْهِهَا وَلَا شَخْصِهَا كَمَا اخْتَارَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، إلَّا إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يَعْرِفُهَا، وَإِذَا وُجِدَ حِينَئِذٍ يَجْرِي الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ أَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَعْرِفَةِ عَدْلَانِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَيُوَافِقُهُ مَا فِي الْمُنْتَقَى: تَحَمَّلَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ عَلَى امْرَأَةٍ فَمَاتَتْ فَشَهِدَا عِنْدَهُ أَنَّ الْمُقِرَّةَ فُلَانَةُ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا، نَقَلَهُ فِي الْخُلَاصَةِ.
وَفِي الْمُحِيطِ: شَهِدَا عَلَى امْرَأَةٍ سَمَّيَاهَا وَنَسِيَاهَا وَكَانَتْ حَاضِرَةً، فَقَالَ الْقَاضِي أَتَعْرِفَانِهَا، فَإِنْ قَالَا لَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا، وَلَوْ قَالَا تَحَمَّلْنَاهَا عَلَى الْمُسَمَّاةِ بِفُلَانَةَ بِنْتِ فُلَانٍ الْفُلَانِيَّةِ وَلَا نَدْرِي أَنَّهَا هَذِهِ أَمْ لَا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ وَكُلِّفَ الْمُدَّعِي أَنْ يَأْتِي بِآخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهَا فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا هُنَاكَ أَقَرَّا بِالْجَهَالَةِ فَبَطَلَتْ الشَّهَادَةُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ يُفِيدُ مَا قُلْنَاهُ.

متن الهداية:
(وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِهِ مِثْلُ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهَا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُوجِبَةً بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ وَلَمْ يُوجَدْ (وَكَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ لِلسَّامِعِ أَنْ يَشْهَدَ) لِأَنَّهُ مَا حَمَلَهُ وَإِنَّمَا حَمَلَ غَيْرَهُ.
الشَّرْحُ:
وَمِنْهُ مَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ، فَإِذَا سَمِعَ شَاهِدًا يَشْهَدُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَهُ ذَلِكَ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَةَ غَيْرُ مُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالنَّقْلِ إلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِنَابَةِ وَالتَّحْمِيلِ، وَلِهَذَا لَوْ سَمِعَهُ يُشْهِدُ شَاهِدًا عَلَى شَهَادَتِهِ لَمْ يَسَعْ السَّامِعَ أَنْ يَشْهَدَ لِأَنَّهُ مَا حَمَّلَهُ وَإِنَّمَا حَمَّلَ غَيْرَهُ، وَهَذَا الْإِطْلَاقُ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ سَمِعَهُ يَشْهَدُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى شَهَادَتِهِ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ مُلْزِمَةٌ.
فُرُوعٌ:
كَتَبَ إلَى آخَرَ رِسَالَةً: مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ.
كَتَبْت تَتَقَاضَى الْأَلْفَ الَّتِي لَك عَلَيَّ وَكُنْت قَضَيْتُك مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَبَقِيَ عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ، أَوْ كَتَبَ إلَى زَوْجَتِهِ: قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَسْأَلِينِي الطَّلَاقَ فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ سَاعَةَ كَتَبَ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمَالِ وَالطَّلَاقِ وَهِيَ شَهَادَةُ حَقٍّ.
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَتَبَ صَكَّ وَصِيَّةٍ وَقَالَ لِلشُّهُودِ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ، وَقِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ.
وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ إذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِمْ أَوْ رَأَوْهُ يَكْتُبُ وَهُمْ يَقْرَءُونَهُ أَوْ كَتَبَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ فَقَالَ لَهُمْ هُوَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، وَلَوْ قَرَأَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّاهِدَانِ نَشْهَدُ عَلَيْك بِمَا فِيهِ فَحَرَّك رَأْسَهُ بِنَعَمْ بِلَا نُطْقٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا فِي الْأَخْرَسِ، وَمِثْلُهُ مَا إذَا وَقَّعَ إلَيْهِمْ وَصِيَّةً مَخْتُومَةً.
وَقَالَ هَذِهِ وَصِيَّتِي وَخَتْمِي فَاشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا فِيهِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: إذَا كَتَبَ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ وَأَوْدَعَهُ الشَّاهِدَ وَلَمْ يَعْرِفْ الشَّاهِدُ مَا فِيهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا فِيهِ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ كَانَ مَعْصُومًا مِنْ التَّبْدِيلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ إذَا كَانَ الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ الْمَعْرُوفِ بِأَنْ كَانَ عَلَى وَرَقَةٍ وَعُنْوَانٍ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ فِي الْكِتَابَةِ إلَى الْغَائِبِ.
وَإِذَا شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ فَقَالَ لَهُمْ لَمْ أُرِدْ الْإِقْرَارَ وَالطَّلَاقَ لَا يَدِينُهُ الْقَاضِي وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا لَوْ رَآهُ كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ لِرَجُلٍ لَا عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ وَلَمْ يُشْهِدْهُمْ بِهِ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِالدَّيْنِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِلتَّجْرِبَةِ، بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ الْمَرْسُومَةِ، وَبِخِلَافِ خَطِّ السِّمْسَارِ وَالصَّرَّافِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْعُرْفِ الْجَارِي بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ.

متن الهداية:
وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ الشَّهَادَةَ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ.
قِيلَ هَذَا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ فِي دِيوَانِهِ أَوْ قَضِيَّتَهُ، لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي قِمْطَرِهِ فَهُوَ تَحْتَ خَتْمِهِ يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ وَلَا كَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي الصَّكِّ لِأَنَّهُ فِي يَدِ غَيْرِهِ، وَعَلَى هَذَا إذَا تَذَكَّرَ الْمَجْلِسَ الَّذِي كَانَ فِيهِ الشَّهَادَةُ أَوْ أَخْبَرَهُ قَوْمٌ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّا شَهِدْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَحِلُّ لِلشَّاهِدِ إذَا رَأَى خَطَّهُ أَنْ يَشْهَدَ إلَّا إذَا تَذَكَّرَ شَهَادَتَهُ) الَّتِي صَدَرَتْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ وَجَزَمَ أَنَّهُ خَطَّهُ لَا يَشْهَدُ، لِأَنَّ هَذَا الْجَزْمَ لَيْسَ بِجَزْمٍ بَلْ تَخَيُّلُ الْجَزْمِ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ فَلَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافًا هُوَ وَلَا فِي شَرْحِهِ لِلْأَقْطَعِ، وَكَذَا الْخَصَّافُ ذَكَرَهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَلَمْ يَحْكِ خِلَافًا.
وَلَمَّا حَكَى الْخِلَافَ الْفَقِيهُ أَبُو اللَّيْثِ وَغَيْرُهُ كَشَمْسِ الْأَئِمَّةِ قَالَ الْمُصَنِّفُ: قِيلَ هَذَا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَقِيلَ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ: يَعْنِي عَدَمَ جَوَازِ الشَّهَادَةِ إذْ رَأَى وَلَمْ يَتَذَكَّرْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا وَجَدَ الْقَاضِي شَهَادَةً فِي دِيوَانِهِ: يَعْنِي رَأَى فِي دِيوَانِهِ شَهَادَةَ شُهُودٍ أُدِّيَتْ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَّصِلْ بِهَا حُكْمٌ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ لَهُ وَطَلَبَ حُكْمَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَتَذَكَّرُ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عِنْدَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا وَجَدَهُ فِي قِمَطْرِهِ تَحْتَ خَاتَمِهِ يَجُوزُ أَنْ يَقْضِي بِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَكَذَا إذَا رَأَى قَضِيَّتَهُ: أَيْ رَأَى حُكْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَرِيطَتِهِ وَهِيَ الْقِمَطْرَةُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ أَنَّهُ حَكَمَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ الْمَبْسُوطِ حَكَى الْخِلَافَ كَذَلِكَ فِي وِجْدَانِ صَحِيفَةِ الْحُكْمِ، وَأَمَّا فِي شَهَادَةِ الشَّاهِدِ يَجِدُهَا فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَفِي الْحَدِيثِ يَجِدُهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّ غَيْرِهِ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ فَعَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ صَارَتْ الْفُصُولُ ثَلَاثَةً: وِجْدَانُ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ عِنْدَهُ أَوْ حُكْمُهُ، وَوِجْدَانُ الشَّاهِدِ خَطَّهُ، وَالرَّاوِي فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخَذَ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ بِالرُّخْصَةِ تَيْسِيرًا وَقَالَ: يُعْتَمَدُ الْخَطُّ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا، وَأَبُو يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ وَالرِّوَايَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ يَدِ أَمِينِهِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ.
وَحَاصِلُ وَجْهِ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي صُوَرِ خِلَافِهِمْ أَنَّ وَضْعَ الْخَطِّ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ، وَهُوَ يَمْنَعُ حَصْرَ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، بَلْ صَحَّ أَنْ تَكُونَ فَائِدَتُهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ بِرُؤْيَتِهِ عِنْدَ النِّسْيَانِ إلَّا أَنِّي أَرَى أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا مَأْمُونًا عَلَيْهِ مِنْ التَّغْيِيرِ كَأَنْ يَكُونَ تَحْتَ خَتْمِهِ فِي خَرِيطَتِهِ الْمَحْفُوظَةِ عِنْدَهُ أَنْ يَتَرَجَّحَ الْعَمَلُ بِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عِنْدَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ، وَرَأَيْنَا كَثِيرًا تَتَحَاكَى خُطُوطُهُمْ حَتَّى أَنِّي رَأَيْت بِبَلْدَةِ الْإِسْكَنْدَرِيَّة خَطَّ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُعْرَفُ بِالْقَاضِي بَدْرِ الدِّينِ الدَّمَامِينِيِّ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِيهًا مَالِكِيًّا شَاعِرًا أَدِيبًا فَصِيحًا، وَخَطَّ آخَرَ بِهَا شَاهِدٌ يُعْرَفُ بِالْخَطِيبِ لَا يُفَرِّقُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ خَطَّيْهِمَا أَصْلًا. وَدَمَامِينُ بِالنُّونِ بَلْدَةٌ بِالصَّعِيدِ.
وَلَقَدْ أَخْبَرَنِي مَنْ أَثِقُ بِصَلَاحِهِ وَخَبَرِهِ أَنَّهُ شَاهَدَ رَجُلًا كَانَ مُعِيدًا فِي الصَّلَاحِيَةِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ وَضَعَ رَسْمَ شَهَادَتِهِ فِي صَكٍّ فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ عُدْوَانًا فَكَتَبَ رَجُلٌ مِثْلَهُ ثُمَّ عَرَضَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَاتِبِ فَلَمْ يَشُكَّ أَنَّهُ خَطُّهُ.
وَهَذَا قول أَبِي يُوسُفَ، وَيَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّكُّ فِي يَدِ الشَّاهِدِ تَرَكَهُ الطَّالِبُ فِي يَدِهِ مُنْذُ كَتَبَهُ جَازَ أَنْ يَشْهَدَ إذَا عَرَفَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَادِثَةَ.
وَبِهَذَا أَجَابَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ حِين كَتَبَ إلَيْهِ نُصَيْرُ بْنُ يَحْيَى فِيمَنْ نَسِيَ شَهَادَتَهُ وَوَجَدَ خَطَّهُ وَعَرَفَهُ هَلْ يَسْعَهُ أَنْ يَشْهَدَ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْخَطُّ فِي حِرْزِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ.
وَقَالَ فِي الْمُجَرَّدِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَوْ شَهِدُوا عَلَى صَكٍّ فَقَالُوا نَعْرِفُ أَنَّ هَذَا خَطُّنَا وَخَوَاتِيمُنَا لَكِنْ لَا نَذْكُرُهُ لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يُنْفِذَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ أَنْفَذَهُ قَاضٍ غَيْرُهُ ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَيْهِ فِيهِ أَنْفَذَهُ، لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْقُضَاةُ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ لِلْقَاضِي أَنِّي أَشْهَدُ مِنْ غَيْرِ تَذَكُّرٍ لِلْحَادِثَةِ بَلْ لِمَعْرِفَةِ خَطِّي لَمْ تُقْبَلْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا.
وَلَوْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَا سِجِلَّ عِنْدَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا، فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ، وَقِيلَ وَأَبُو يُوسُفَ كَذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَمَدُ وَيَقْضِي بِهِ، وَهُوَ قول أَحْمَدَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَعَلَى هَذَا لَوْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا ثُمَّ نَسِيَ الْأَصْلُ رِوَايَتَهُ لِلْفَرْعِ ثُمَّ سَمِعَ الْفَرْعَ يَرْوِيهِ عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ لَا يُعْمَلُ بِهِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْمَلُ بِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ الْمَسَائِلُ الَّتِي رَوَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنَسِيَهَا أَبُو يُوسُفَ وَهِيَ سِتٌّ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَعْتَمِدُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ لَهَا عَنْهُ، وَمُحَمَّدٌ كَانَ لَا يَدَعُ رِوَايَتَهَا عَنْهُ، كَذَا قَالُوا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ فِي تَخْرِيجِ الْمَسَائِلِ السِّتِّ إشْكَالًا، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ لِهَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ أَنْكَرَ وَقَالَ مَا رَوَيْت لَك عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ذَلِكَ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْهِدَايَةِ فِيمَا إذَا صَلَّى أَرْبَعًا وَتَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَإِحْدَى الْأُخْرَيَيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ أَرْبَعٍ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: مَا رَوَيْت لَك إلَّا رَكْعَتَيْنِ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَيْسَتْ مِنْ صُوَرِ نِسْيَانِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، بَلْ مِنْ صُوَرِ تَكْذِيبِ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ عَنْهُ كَمَا يُعْرَفُ فِي الْأُصُولِ، وَلَا خِلَافَ يُحْفَظُ فِيهِ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْأُصُولِيِّينَ أَنَّ رِوَايَةَ الْفَرْعِ تُرَدُّ فِي ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا نَسِيَ الْأَصْلُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِالْإِنْكَارِ فَلَا يَنْبَغِي اعْتِبَارُ قول مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.
نَعَمْ إذَا صَحَّ اعْتِبَارُ مَا ذَكَرَهُ عَنْهُ تَخْرِيجًا عَلَى أُصُولِ أَبِي حَنِيفَة يُمْكِنُ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ إلَّا النَّسَبَ وَالْمَوْتَ وَالنِّكَاحَ وَالدُّخُولَ وَوِلَايَةَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَذَلِكَ بِالْعِلْمِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَصَارَ كَالْبَيْعِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ تَخْتَصُّ بِمُعَايَنَةِ أَسْبَابِهَا خَوَّاصٌ مِنْ النَّاسِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامٌ تَبْقَى عَلَى انْقِضَاءِ الْقُرُونِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ فِيهَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَتَعْطِيلِ الْأَحْكَامِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِالِاشْتِهَارِ وَذَلِكَ بِالتَّوَاتُرِ أَوْ بِإِخْبَارِ مَنْ يَثِقُ بِهِ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ.
وَيُشْتَرَطُ أَنْ يُخْبِرَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لِيَحْصُلَ لَهُ نَوْعُ عِلْمٍ.
وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ أَوْ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ غَيْرُ الْوَاحِدِ إذْ الْإِنْسَانُ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ فَيَكُونُ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ بَعْضُ الْحَرَجِ، وَلَا كَذَلِكَ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالتَّسَامُعِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا أَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ فِي الْأَمْلَاكِ تُطْلِقُ الشَّهَادَةَ، ثُمَّ إذَا فَسَّرَ لَا تُقْبَلُ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا جَلَسَ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْخُصُومُ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى كَوْنِهِ قَاضِيًا وَكَذَا إذَا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً يَسْكُنَانِ بَيْتًا وَيَنْبَسِطُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ انْبِسَاطَ الْأَزْوَاجِ كَمَا إذَا رَأَى عَيْنًا فِي يَدِ غَيْرِهِ.
وَمَنْ شَهِدَ أَنَّهُ شَهِدَ دَفْنَ فُلَانٍ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ فَهُوَ مُعَايَنَةٌ، حَتَّى لَوْ فَسَّرَ لِلْقَاضِي قَبْلَهُ ثُمَّ قَصَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ آخِرًا أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ لِقولهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَقْفِ لِأَنَّهُ يَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ، إلَّا أَنَّا نَقول الْوَلَاءُ يُبْتَنَى عَلَى زَوَالِ الْمِلْكِ وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمُعَايَنَةِ فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِي أَصْلِهِ دُونَ شَرَائِطِهِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ بِشَيْءٍ لَمْ يُعَايِنْهُ) أَيْ لَمْ يَقْطَعْ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَايَنَةِ بِالْعَيْنِ أَوْ السَّمَاعِ إلَّا فِي النَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالنِّكَاحِ وَالدُّخُولِ وَوِلَايَةِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ إذَا أَخْبَرَهُ بِهَا مَنْ يَثِقُ بِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْإِخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، وَفِي الْمَوْتِ إذَا قُلْنَا يَكْفِي الْوَاحِدُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظُ الشَّهَادَةِ بِالِاتِّفَاقِ، أَوْ بِتَوَاتُرِ الْخَبَرِ بِذَلِكَ وَقِيلَ فِي الْمَوْتِ يَكْتَفِي بِإِخْبَارِ وَاحِدٍ عَدْلٍ أَوْ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ قَلَّمَا يُشَاهِدُ عِنْدَ الْمَوْتِ إلَّا وَاحِدٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَهَابُهُ وَيَكْرَهُهُ، فَإِذَا رَآهُ وَاحِدٌ عَدْلٌ، وَيَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَهُوَ عَدْلٌ أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ، ثُمَّ يَشْهَدَانِ بِمَوْتِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ الْمُخْبِرُ أَنَّهُ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ أَوْ دَفْنَهُ حَتَّى يَشْهَدَ الْآخَرُ مَعَهُ، وَكَذَا لَوْ جَاءَ خَبَرَ مَوْتِ رَجُلٍ وَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يُصْنَعُ بِالْمَوْتَى لَمْ يَسَعْ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ إلَّا إنْ شَهِدَ مَوْتَهُ أَوْ سَمِعَ مِمَّنْ شَهِدَ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي الْفَتَاوَى.
وَالِاكْتِفَاءُ بِالْعَدْلَيْنِ نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَشْهَدُ حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ جَمَاعَةٍ، وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي الْكُلِّ: حَتَّى يَسْمَعَ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَتَابُعَ الْأَخْبَارُ وَيَقَعَ فِي قَلْبِهِ تَصْدِيقُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ.
وَفِي الْفُصُولِ عَنْ شَهَادَاتِ الْمُحِيطِ فِي النَّسَبِ أَنْ يَسْمَعَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَهُمَا إذَا أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ أَنَّهُ ابْنُ فُلَانٍ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ كَانَ يُفْتِي بِقولهِمَا وَهُوَ اخْتِيَارُ النَّسَفِيِّ.
وَفِي النِّكَاحِ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُصَنِّفُ مَعَ رُؤْيَةِ دُخُولِهِ إلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ النَّاسِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ وَكَذَا الْقَضَاءُ وَذَكَرَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ الْحَقُّ.
ثُمَّ قول أَحْمَدَ كَقولنَا فِيمَا سِوَى الدُّخُولِ.
وَقول لِلشَّافِعِيِّ وَرِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَحْكِ خِلَافًا بَلْ جَعَلَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا.
فَالْقِيَاسُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ، فَإِنَّ الِاشْتِقَاقَ انْتِظَامُ الصِّيغَتَيْنِ مَعْنًى وَاحِدًا بَعْدَ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْحُرُوفِ الْأُصُولِ، وَالْمُشَاهَدَةُ مُنْتَفِيَةٌ: يَعْنِي الْقَطْعَ فَلَا تَجُوزُ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ، كَمَا لَوْ سَمِعَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَنَّهُ بَاعَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَكَذَا غَيْرُهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ سَبَبٌ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ سِوَى الْخَبَرِ، إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِحُضُورِ النَّاسِ الْوِلَادَةَ، إنَّمَا يَرَوْنَ الْوَلَدَ مَعَ أُمِّهِ أَوْ مُرْضِعَتِهِ وَيَنْسِبُونَهُ إلَى الزَّوْجِ فَيَقولونَ هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، وَكَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَحْضُرُهُ غَالِبًا إلَّا الْأَقَارِبُ، فَإِذَا رَأَوْا الْجِنَازَةَ وَالدَّفْنَ حَكَمُوا بِمَوْتِ فُلَانٍ، وَكَذَا النِّكَاحُ لَا يَحْضُرُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَإِنَّمَا يُخْبِرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَنَّ فُلَانًا تَزَوَّجَ فُلَانَةَ، وَكَذَا الدُّخُولُ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِأَمَارَاتِ فَإِنَّ الْوَطْءَ لَا يُشَاهَدُ، وَكَذَا وِلَايَةُ السُّلْطَانِ لِلْقَاضِي لَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْخَوَاصُّ، وَإِنَّمَا يَحْضُرُونَ جُلُوسَهُ وَتَصَدِّيهِ لِلْأَحْكَامِ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَادَةُ أَنَّ عِلْمَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَالِبًا لَا يَحْصُلُ إلَّا لِبَعْضِ أَفْرَادٍ وَأَنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ فِيهِ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ الْخَبَرُ مُسَوِّغًا لِلشَّهَادَةِ وَإِلَّا ضَاعَتْ حُقُوقٌ عَظِيمَةٌ تَبْقَى عَلَى مَرِّ الْأَعْصَارِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ وَالْإِرْثِ وَالْمَوْتِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْعِدَّةِ وَالْإِحْصَانِ وَكَمَالِ الْمَهْرِ فِي الدُّخُولِ، وَالْحَاسِمُ لِمَادَّةِ الشَّغَبِ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَنَّهَا زَوْجَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا، وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بْنَ الْخَطَّابِ، وَأَنَّ شُرَيْحًا كَانَ قَاضِيًا، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتُوا وَإِنْ لَمْ نُعَايِنْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَحُكِيَ فِي الْخُلَاصَةِ عَنْ ظَهِيرِ الدِّينِ فِي الدُّخُولِ: لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُثْبِتَ الدُّخُولَ يُثْبِتَ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ.
وَنَصَّ الْخَصَّافُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ يَشْتَهِرُ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ فَاحِشَةٌ تُسْتَرُ.
قولهُ: (وَيَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ) فَيَشْهَدَ أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ أَمِيرٌ أَوْ قَاضٍ، أَمَّا إذَا فَسَّرَ لِلْقَاضِي أَنَّهُ شَهِدَ عَنْ تَسَامُعٍ بَيْنَ النَّاسِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، كَمَا أَنَّهُ إذَا شَهِدَ بِالْمِلْكِ لِمُعَايَنَةِ الْيَدِ حَلَّ لَهُ وَتُقْبَلُ، وَلَوْ فَسَّرَ فَقَالَ لِأَنِّي رَأَيْتهَا فِي يَدِهِ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا تُقْبَلُ.
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ: شَهِدَا عَلَى النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ وَفَسَّرَا وَقَالَا سَمِعْنَا ذَلِكَ مِنْ قَوْمٍ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ.
وَقِيلَ تُقْبَلُ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعُمْدَةِ: لَوْ قَالَا أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ مَنْ نَثِقُ بِهِ تُقْبَلُ وَجَعَلَهُ الْأَصَحَّ وَاخْتَارَهُ الْخَصَّافُ.
وَفِي فُصُولِ الْأُسْرُوشَنِيِّ: لَوْ شَهِدَ عَلَى النِّكَاحِ فَسَأَلَهُمَا الْقَاضِي هَلْ كُنْتُمَا حَاضِرَيْنِ فَقَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُمَا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ، وَقِيلَ لَا تُقْبَلُ كَأَنَّهُمَا قَالَا لَمْ نُعَايِنْ.
وَلَوْ شَهِدَا وَقَالَا سَمِعْنَا لَا تُقْبَلُ فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا دَفَنَاهُ أَوْ قَالَا شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ تُقْبَلُ.
وَلَوْ شَهِدَ بِالْمَوْتِ وَاحِدٌ وَآخَرُ بِالْحَيَاةِ تَأْخُذُ امْرَأَتُهُ بِشَهَادَةِ الْمَوْتِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْعَارِضَ، ذَكَرَهُ رَشِيدُ الدِّينِ فِي فَتَاوَاهُ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَوْ أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ بِمَوْتِهِ وَاثْنَانِ بِحَيَاتِهِ، إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْمَوْتِ عَدْلًا وَيَشْهَدُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَهُ أَوْ جِنَازَتَهُ وَسِعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا.
ثُمَّ قَالَ: هَذَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخَا، فَإِنْ أَرَّخَا وَتَارِيخُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ بَعْدَ تَارِيخِ شَاهِدِ الْمَوْتِ فَشَهَادَةُ شَاهِدِي الْحَيَاةِ أَوْلَى وَكَذَا بِقَتْلِهِ انْتَهَى.
وَأَطْلَقَ فِي وَصَايَا عِصَامِ الدِّينِ فَقَالَ: شَهِدَا أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَآخَرَانِ عَلَى الْحَيَاةِ فَالْمَوْتُ أَوْلَى.
وَفِي فَتَاوَى الْفَضْلِيِّ: شَهِدَ عِنْدَهَا عَدْلٌ أَنَّ زَوْجَهَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ هَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ؟ رِوَايَتَانِ: فِي السِّيَرِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ.
وَمِنْ فُرُوعِ التَّسَامُعِ فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ: قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ: سَمِعْت أَنَّ زَوْجَكِ مَاتَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا، فَإِنْ تَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَخْبَرَهَا جَمَاعَةٌ أَنَّهُ حَيٌّ إنْ صَدَّقَتْ الْأَوَّلَ يَصِحُّ النِّكَاحَ.
وَفِي الْمُنْتَقَى لَمْ يَشْتَرِطْ تَصْدِيقَهَا بَلْ شَرَطَ عَدَالَةَ الْمُخْبِرِ فَقَطْ، وَقَدْ يَخَالُ أَنَّ هَذَا خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَلِّ إقْدَامِهَا وَعَدَمِهِ، وَهَذَا بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ وَاسْتَحَقَّهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ظَاهِرًا، وَالشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ إذَا أَخْبَرَهَا وَاحِدٌ عَدْلٌ أَوْ شَهِدَ عِنْدَ وَلِيِّهَا بِأَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَوَقَعَ فِي قَلْبِهَا صِدْقُهُ لَهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ.
وَذَكَرَ رَشِيدُ الدِّينِ أَيْضًا فِيهِ إنَّمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَى الْمَوْتِ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِأَنْ كَانَ عَالِمًا أَوْ مِنْ الْعُمَّالِ، أَمَّا إذَا كَانَ تَاجِرًا أَوْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ لَا تَجُوزُ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ.
قولهُ: (ثُمَّ قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْكِتَابِ) أَيْ اسْتِثْنَاءَ الْقُدُورِيِّ حَيْثُ قَالَ: إلَّا فِي النَّسَبِ إلَى آخَرِ الْأَشْيَاءِ الْخَمْسَةِ يَنْفِي اعْتِبَارَ التَّسَامُعِ فِي الْوَلَاءِ وَالْوَقْفِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ فِيهِمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ فِي الْوَلَاءِ بِالتَّسَامُعِ رَجَعَ إلَيْهِ، وَكَانَ أَوَّلًا يَقول كَقول أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ.
ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ تَجُوزُ لِقولهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» وَفِي النَّسَبِ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ، فَكَذَا فِي الْوَلَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَافِعًا مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَبِلَالًا مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.
وَلَهُمَا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعِتْقِ، وَالْعِتْقُ لِقولهِ قولا يُسْمَعُ، وَكَثِيرًا مَا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ لَا يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَكَذَا مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ، وَلَيْسَ تَجْوِيزُنَا بِالسَّمَاعِ لِكَوْنِ الشَّيْءِ مِمَّا يَشْتَهِرُ بَلْ لِلضَّرُورَةِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ النَّسَبَ لَا يُرَى إذْ لَا يُرَى الْعُلُوقُ، وَكَذَا تَقْلِيدُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ إلَّا الْخَوَاصُّ وَالْمَوْتُ وَالْبَاقِي فَيُؤَدِّي إلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَا كَذَلِكَ الْعِتْقُ.
وَكَوْنُ نَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ الْحَقِّ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنْ لَا خِلَافَ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بِالتَّسَامُعِ، وَعَلَيْهِ نَصَّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ.
وَذَكَرَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْعِتْقِ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تَجُوزُ بِالتَّسَامُعِ خِلَافًا لَهُمَا، وَهُوَ قول مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَقول لِلشَّافِعِيِّ.
وَشَرَطَ الْخَصَّافُ فِي الْوَلَاءِ عَلَى قول أَبِي يُوسُفَ شَرْطًا لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ فِي الْمَبْسُوطِ فَقَالَ: إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَ الْعِتْقُ مَشْهُورًا وَلِلْمُعْتِقِ أَبَوَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَأَمَّا الْوَقْفُ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِهِ) وَقَالَ الْأَقْطَعُ فِي شَرْحِهِ: قَالَ مُحَمَّدٌ تَجُوزُ، وَقولهُ لِأَنَّ أَصْلَهُ هُوَ الَّذِي يَشْتَهِرُ لَيْسَ بِذَاكَ، وَالْوَجْهُ فِي التَّوْجِيهِ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قولا مِمَّا يُقْصَدُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنَّهُ فِي تَوَالِي الْأَعْصَارِ تَبِيدُ الشُّهُودُ وَالْأَوْرَاقُ مَعَ اشْتِهَارِ وَقْفِيَّتِهِ فَيَبْقَى فِي الْبَقَاءِ سَائِبَةٌ إنْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ بِهِ بِالتَّسَامُعِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ.
وَقولهُ فَالصَّحِيحُ إلَخْ احْتِرَازٌ عَنْ قول طَائِفَةٍ مِنْ الْمَشَايِخِ.
قَالَ فِي الْفُصُولِ: اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ تَحِلُّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَحِلُّ.
وَمِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ تَجُوزُ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ لَا عَلَى شَرَائِطِهِ، وَإِلَيْهِ مَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيِّ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَيْسَ مَعْنَى الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ بَلْ أَنْ يَقول يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهَا بِكَذَا وَكَذَا وَالْبَاقِي كَذَا وَكَذَا.
وَفِي الْفَتَاوَى الصُّغْرَى فِي الْفَصْلِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ: إذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذَا وَقْفٌ عَلَى كَذَا وَلَمْ يُبَيِّنُوا الْوَاقِفَ يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ.
وَنَصٌّ عَنْ الشَّيْخِ الْإِمَامِ ظَهِيرِ الدِّينِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَقْفُ قَدِيمًا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الْوَاقِفِ، وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الضَّيْعَةَ وَقْفٌ وَلَمْ يَذْكُرُوا الْجِهَةَ لَا تَجُوزُ وَلَا تُقْبَلُ بَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَقولوا وَقْفٌ عَلَى كَذَا.
ثُمَّ قَالَ: وَمَا ذُكِرَ هُنَا.
وَفِي الْأَصْلِ صُورَتُهُ: أَنْ يَشْهَدُوا بِالتَّسَامُعِ أَنَّهَا وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ يَبْدَأُ بِغَلَّتِهَا فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا ثُمَّ مَا فَضُلَ يُصْرَفُ إلَى كَذَا لَا يُشْهَدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالتَّسَامُعِ، وَهَكَذَا قَالَ الْمَرْغِينَانِيُّ قَالَ: لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْجِهَةِ أَنَّهُ وَقْفٌ عَلَى الْمَسْجِدِ أَوْ الْمَقْبَرَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
قَالَ: وَتَأْوِيلُ قولهِمْ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلشَّاهِدِ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِهَةِ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهِ فَيُصْرَفُ إلَى كَذَا وَكَذَا، وَلَوْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ.
ذَكَرَهُ فِي الذَّخِيرَةِ.
وَذَكَرَ فِي الْمُجْتَبَى وَالْمُخْتَارِ أَنْ تُقْبَلَ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ أَيْضًا.
وَأَنْتَ إذَا عَرَفْت قولهُمْ فِي الْأَوْقَافِ الَّتِي انْقَطَعَ ثُبُوتُهَا وَلَمْ يُعْرَفْ لَهَا شَرَائِطُ وَمَصَارِفُ أَنَّهَا يَسْلُكُ بِهَا مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي دَوَاوِينِ الْقُضَاةِ لَمْ تَقِفْ عَنْ تَحْسِينِ مَا فِي الْمُجْتَبَى لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الثُّبُوتِ بِالتَّسَامُعِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَسِعَك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ لَهُ) لِأَنَّ الْيَدَ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْمِلْكِ إذْ هِيَ مَرْجِعُ الدَّلَالَةِ فِي الْأَسْبَابِ كُلِّهَا فَيَكْتَفِي بِهَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ قَالُوا: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فَيَكُونُ شَرْطًا عَلَى الِاتِّفَاقِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّ الْيَدَ مُتَنَوِّعَةٌ إلَى إنَابَةٍ وَمِلْكٍ.
قُلْنَا: وَالتَّصَرُّفُ يَتَنَوَّعُ أَيْضًا إلَى نِيَابَةٍ وَأَصَالَةٍ.
ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وُجُوهٍ: إنْ عَايَنَ الْمَالِكُ الْمِلْكَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ، وَكَذَا إذَا عَايَنَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ دُونَ الْمَالِكِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَيَحْصُلُ مَعْرِفَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنْهَا أَوْ عَايَنَ الْمَالِكَ دُونَ الْمِلْكِ لَا يَحِلُّ لَهُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَمَنْ كَانَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ إلَخْ) صُورَتُهَا: رَأَى عَيْنًا سِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ فِي يَدِ إنْسَانٍ ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالْأَوَّلُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمِلْكَ يُعْرَفُ بِالظَّاهِرِ وَالْيَدُ بِلَا مُنَازَعٍ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ فِيهِ، وَلَا دَلِيلَ سِوَاهُ لِأَنَّ غَايَةَ مَا يُمْكِنُ فِيهِ أَنْ يُعَايِنَ سَبَبُ الْمِلْكِ مِنْ الشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَمَوْتِ الْمُوَرِّثِ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يُفِيدُ مِلْكَ الثَّانِي حَتَّى يَكُونَ مِلْكُ الْأَوَّلِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي حَلِّ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ.
وَفِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ أُسْنِدَ هَذَا الْقول إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَفْظُهُ وَعَنْهُمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالُوا يَعْنِي الْمَشَايِخَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرًا لِإِطْلَاقِ مُحَمَّدٍ فِي الرِّوَايَةِ.
قَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قولهُ قول الْكُلِّ وَبِهِ نَأْخُذُ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: هَذَا قولهُمْ جَمِيعًا.
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي حِلِّ الشَّهَادَةِ الْيَقِينُ لِمَا عُرِفَ، فَعِنْدَ تَعَذُّرِهِ يُصَارُ إلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ الْقَلْبُ لِأَنَّ كَوْنَ الْيَدِ مُسَوِّغًا بِسَبَبِ إفَادَتِهَا ظَنَّ الْمِلْكِ، فَإِذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْقَلْبِ ذَلِكَ لَا ظَنَّ فَلَمْ يُفِدْ مُجَرَّدَ الْيَدِ، وَلِهَذَا قَالُوا: إذَا رَأَى إنْسَانٌ دُرَّةً ثَمِينَةً فِي يَدِ كَنَّاسٍ أَوْ كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ لَيْسَ فِي آبَائِهِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لَهُ فَعُرِفَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَدِ لَا يَكْفِي.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: دَلِيلُ الْمِلْكِ الْيَدُ مَعَ التَّصَرُّفِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الْخَصَّافُ، وَهُوَ قول مَالِكٍ، لِأَنَّ الْيَدَ تَتَنَوَّعُ إلَى مِلْكٍ وَنِيَابَةٍ وَضَمَانٍ.
قُلْنَا: وَكَذَا التَّصَرُّفُ أَيْضًا فَلَمْ يَزُلْ احْتِمَالُ عَدَمِ الْمِلْكِ بِالتَّصَرُّفِ، ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يُطْلِقَ الشَّهَادَةَ حَتَّى لَوْ قَالَ إنَّهُ شَهِدَ بِنَاءً عَلَى الْيَدِ لَا تُقْبَلُ، وَهَذَا لِأَنَّ مُعَايَنَةَ الْيَدِ مُطْلِقٌ لِلشَّهَادَةِ مُجَوِّزٌ لَهَا لَا مُوجِبٌ عَلَى الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ وَالْقَاضِي يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ بِالشَّهَادَةِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: إذَا كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَتَصَرَّفُ فِيهَا تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِالْعِمَارَةِ وَالْهَدْمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَانِبِهَا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ لَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا فِي يَدِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا إذَا أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الدَّارَ الَّتِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ لِأَنَّ الْعِيَانَ لَيْسَ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ بَلْ لِلْجَوَازِ.
قولهُ: (ثُمَّ إنْ عَايَنَ الْمِلْكَ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَالْمَالِكَ، وَهُوَ إنْ عَرَفَ الْمَالِكَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَوَجْهِهِ وَعَرَفَ الْمِلْكَ بِحُدُودِهِ وَرَآهُ فِي يَدِهِ بِلَا مُنَازَعٍ ثُمَّ رَآهُ فِي يَدِ آخَرَ فَجَاءَ الْأَوَّلُ وَادَّعَاهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِلْكِ الْمَمْلُوكُ.
الثَّانِي أَنْ يُعَايِنَ الْمِلْكَ دُونَ الْمَالِكِ بِأَنْ عَايَنَ مِلْكًا بِحُدُودِهِ يُنْسَبُ إلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ وَنَسَبِهِ ثُمَّ جَاءَ الَّذِي نُسِبَ إلَيْهِ الْمِلْكُ وَادَّعَى مِلْكَ هَذَا الْمَحْدُودِ عَلَى شَخْصٍ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ تَمْنَعُ جَوَازَ الشَّهَادَةِ، فَكَذَا فِي الْمَشْهُودِ لَهُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمَشْهُودَ بِهِ مَعْلُومٌ وَالنَّسَبَ يَثْبُتُ بِالتَّسَامُعِ فَصَارَ الْمَالِكُ مَعْلُومًا بِالتَّسَامُعِ أَيْضًا.
وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ.
وَأُجِيبَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالْمِلْكِ هُنَا لَيْسَتْ قَصْدًا بَلْ بِالنَّسَبِ وَفِي ضِمْنِهِ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فَيَجُوزُ، وَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِعَ أَنَّ هَذَا الْمِلْكَ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِنَسَبِ الْمَالِكِ بِالتَّسَامُعِ وَثَبَتَ مُلْكُهُ فِي ضِمْنِهِ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُتَضَمِّنِ لَا الْمُتَضَمَّنِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُجَرَّدَ ثُبُوتِ نَسَبِهِ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يُوجِبْ ثُبُوتَ مِلْكِهِ لِتِلْكَ الضَّيْعَةِ لَوْلَا الشَّهَادَةُ بِهِ، وَكَذَا الْمَقْصُودُ لَيْسَ إثْبَاتُ النَّسَبِ بَلْ الْمِلْكِ فِي الضَّيْعَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَعَلَى هَذَا قَالَ النَّاضِحِيُّ: فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ امْرَأَةً لَا تَخْرُجُ وَلَا يَرَاهَا الرِّجَالُ، فَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ مَشْهُورًا أَنَّهُ لَهَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ لِأَنَّ شُهْرَةَ الِاسْمِ كَالْمُعَايَنَةِ.
الثَّالِثُ أَنْ لَا يُعَايِنَ الْمِلْكَ وَلَا الْمَالِكَ بَلْ سَمِعَ أَنَّ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ضَيْعَةً فِي قَرْيَةِ كَذَا حُدُودُهَا كَذَا وَهُوَ لَمْ يَعْرِفْ تِلْكَ الضَّيْعَةَ وَلَمْ يُعَايِنْ يَدَهُ عَلَيْهَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ.
الرَّابِعُ أَنْ يُعَايِنَ الْمَالِكَ بِأَنْ عَرَفَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً كَمَا ذَكَرْنَا وَسَمِعَ أَنَّ لَهُ ضَيْعَةً فِي كُورَةِ كَذَا وَهُوَ لَا يَعْرِفُ تِلْكَ الضَّيْعَةَ بِعَيْنِهَا لَا يَسَعُهُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِالْمَحْدُودِ.

متن الهداية:
وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَكُونُ فِي يَدِ نَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ إلَّا أَنَّهُمَا صَغِيرَانِ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ فَذَلِكَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَيُدْفَعُ يَدُ الْغَيْرِ عَنْهُمَا فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْمِلْكِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِيهِمَا أَيْضًا اعْتِبَارًا بِالثِّيَابِ، وَالْفَرْقُ مَا بَيِّنَاهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَأَمَّا الْعَبْدُ وَالْأَمَةُ) يَعْنِي إذَا عَايَنَهُمَا فِي يَدِ إنْسَانٍ يَخْدُمَانِهِ إذَا كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُمَا رَقِيقَانِ جَازَ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُمَا مِلْكَهُ سَوَاءٌ كَانَا صَغِيرَيْنِ أَوْ كَبِيرَيْنِ لِأَنَّهُمَا بِوَصْفِ الرِّقِّ لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَقَدْ شُوهِدَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا فَكَانَ كَرُؤْيَةِ ثَوْبٍ فِي يَدِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ رِقَّهُمَا، فَإِنْ كَانَا صَغِيرَيْنِ: أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِمِلْكِهِمَا لَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُمَا لَا يَدَ لَهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ: أَيْ لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا سَوَاءٌ كَانَا صَبِيَّيْنِ عَاقِلَيْنِ أَوْ بَالِغَيْنِ بِهِ صَرَّحَ الْمَحْبُوبِيُّ فَهُوَ مَصْرِفُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قولهِ سِوَى الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِأَنَّ لَهُمَا يَدًا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتَدْفَعُ الْغَيْرَ عَنْهُمَا، حَتَّى أَنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يَعْقِلُ لَوْ أَقَرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ جَازَ إقْرَارُهُ وَيَصْنَعُ الْمُقِرُّ لَهُ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِمَمْلُوكِهِ، وَإِذَا كَانَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ لَا تَكُونُ الْيَدُ دَلِيلَ الْمِلْكِ إذْ الْحُرُّ قَدْ يَخْدُمُ الْحُرَّ خِدْمَةَ الْعَبِيدِ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يُهْدَرُ إذَا كَانَا لَا يُعَبِّرَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا، فَأَمَّا إذَا كَانَ لِذَلِكَ أَهْلًا فَلَا يَزَالُ اعْتِبَارُهُ إلَّا بِإِقْرَارِهِمَا بِالرِّقِّ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّا لَا تَثْبُتُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِمَا بِهِ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُمَا الْحُرِّيَّةَ بَعْدَمَا كَبِرَا فِي يَدِ مَنْ هُمَا فِي يَدِهِ لِظُهُورِ الرِّقِّ عَلَيْهِمَا بِالْيَدِ فِي حَالِ صِغَرِهِمَا.
هَذَا وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ فِي الْكَبِيرَيْنِ أَيْضًا، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَجَعَلُوا الْيَدَ فِي الْكُلِّ دَلِيلًا عَلَى الْمِلْكِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا أَوْ أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ فَالْقول لِذِي الْيَدِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِقِيَامِ يَدِهِ عَلَيْهِ.
وَقولهُ (وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا) يُرِيدُ كَوْنَ يَدَيْهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَتُدْفَعُ الْيَدُ عَنْهُمَا.